تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
فقد المشهد الفني المصري والعربي، المخرج الكبير داوودعبد السيد، أحد أكثر المبدعين خصوصية وعمقًا في تاريخ السينما المصرية، تاركًا وراءه تراثًا فنيًا محدود الكم، هائل القيمة، ومفتوحًا على أسئلة لم تُغلق بعد.
- غير تقليدي
لم يكن داوودعبد السيد صانع أفلاما تقليديًا، ولا مخرجًا يسعى إلى النجومية أو الصدارة، بل كان صاحب مشروع فكري وجمالي واضح، آمن بالسينما بوصفها أداة للتفكير، لا مجرد وسيلة للترفيه أو الاستهلاك السريع. ومع رحيله، تفقد السينما المصرية والعربية أحد آخر حكمائها، وأحد أكثر من تعاملوا مع الصورة باعتبارها لغة فلسفية كاملة.
- البدايات
وُلد داوود عبد السيد في القاهرة عام 1946، ونشأ في مناخ ثقافي وفني ساعد على تشكل وعيه مبكرًا بالفنون، خاصة السينما والأدب، التحق بالمعهد العالي للسينما، وتخرج في قسم الإخراج، في جيل كان يؤمن بأن السينما ليست صناعة فقط، بل موقف ورؤية.
في سنواته الأولى عمل مساعدًا لعدد من كبار المخرجين، واكتسب خبرة عملية مهمة، كما شارك في إخراج أفلام تسجيلية، كان لها أثر بالغ في صياغة نظرته الواقعية المتأملة، وقدرته على التقاط التفاصيل الإنسانية الصغيرة.
- نضج فكري
لم تكن خطواته الأولى نحو الإخراج متعجلة، بل جاءت بعد نضج فكري واضح، ووعي شديد بما يريد أن يقدمه، وما لا يريد أن يكون جزءًا منه.
منذ بداياته، بدا داوودعبد السيد مخرجًا يكتب أفلامه بعقله قبل الكاميرا، ويصوغ مشاهده من الداخل إلى الخارج.
- سينما تبحث عن المعنى
جاء أول أفلامه الروائية ليعلن عن صوت مختلف، لا يشبه السائد في الثمانينيات. ومنذ تلك اللحظة، صار داوود عبد السيد اسمًا مرتبطًا بسينما الأسئلة، لا سينما الإجابات الجاهزة.
في أفلامه، لا يوجد بطل تقليدي، ولا شرير نمطي، بل شخصيات قلقة، مترددة، تبحث عن خلاص فردي في عالم مرتبك.
في “البحث عن سيد مرزوق”، يطرح فكرة التيه والبحث عن المعنى داخل مدينة قاسية ومغلقة. وفي “الكيت كات”، يقدم واحدة من أعظم شخصيات السينما المصرية، الشيخ حسني، الكفيف الذي يرى ما لا يراه المبصرون، ويتحول الحي الشعبي إلى كون فلسفي كامل، تختلط فيه السخرية بالحكمة، والضحك بالألم. لم يكن الفيلم مجرد حكاية عن الفقر أو الهامش، بل تأملًا عميقًا في الحرية، والإيمان، والقدرة على الحلم رغم كل شيء.
- صاحب الفلسفة
أما “أرض الخوف”، فيُعد ذروة مشروعه الفكري، فيلمًا مركزيًا في تاريخ السينما العربية، يناقش فكرة السلطة، والاختيار، والذوبان داخل الدور، إلى حد فقدان الذات.
الفيلم لم يكن مجرد حكاية عن الضابط يحيى المنقبادي الذي يتخفى بين تجار المخدرات، بل رحلة وجودية عن الإنسان حين يختبر الشر، ويكتشف هشاشة الحدود بين الخير والشر، والواجب والرغبة.
- لم يساوم
على مدار مسيرته، ظل داوودعبد السيد وفيًا لنفسه، رافضًا تقديم أفلام لا يؤمن بها، حتى لو كان الثمن الغياب الطويل أحيانا.
لم يسعَ إلى السوق، ولم يلهث خلف شباك التذاكر، ولم يدخل في معادلات الإنتاج السهلة. لهذا جاءت أفلامه متباعدة زمنيًا، لكنها شديدة التماسك فكريًا، كأنها فصول من كتاب واحد طويل عن الإنسان وسط عواصف تحولات المجتمع والحياة.
- انحياز للإنسان البسيط
في “مواطن ومخبر وحرامي”، عاد ليؤكد انحيازه للإنسان البسيط، الممزق بين القهر والرغبة في النجاة، بينما قدّم في “رسائل البحر” عملًا بالغ الحساسية عن العزلة والاغتراب والبحث عن الحب في عالم لا يمنح الطمأنينة بسهولة.
أما فيلمه الأخير “قدرات غير عادية”، فجاء كخلاصة هادئة لمشروعه، فيلم يؤكد أن الأسئلة القديمة لا تزال مطروحة، وأن الإنسان لم يتغير كثيرًا.
- أثره في السينما والثقافة
لم يكن تأثير داوودعبد السيد محصورًا في أفلامه فقط، بل امتد إلى أجيال كاملة من المخرجين والنقاد والدارسين. صارت أعماله مادة أساسية في معاهد السينما، ونقطة مرجعية لأي نقاش جاد حول السينما في مصر، كما أن وجوده في قلب الوسط الثقافي وصداقاته مع كل نجوم الكتابة والأدب والشعر ونخبة المثقفين المصريين، كان محور للكثير من الأفكار الملهمة.
كثير من المخرجين الشباب تعلموا منه أن الصمت قد يكون أبلغ من الحوار، وأن اللقطة الثابتة قد تحمل معنى أعمق من عشرات المشاهد الصاخبة.
كان داوودعبد السيد جزءًا من تيار نادر في السينما المصرية، تيار يرى أن السينما تفكير قبل أن تكون حكاية، وأن المخرج ليس مجرد منفذ، بل مفكر بصري، ومسؤول أخلاقيًا عن ما يقدمه. لذلك جاءت أفلامه عصية على الاستهلاك السريع، لكنها قادرة على البقاء، وإعادة الاكتشاف مع كل مشاهدة جديدة.
- مشهد الوداع
برحيل داوودعبد السيد، لا تُغلق صفحة، بل تُفتح أسئلة جديدة حول مستقبل السينما الجادة، ودور المخرج المثقف في زمن السرعة والخفة. ترك لنا أفلامًا لا تشيخ، وشخصيات لا تموت، وأسئلة لا تزال قادرة على إزعاجنا وإيقاظ وعينا.
لم يكن داوودعبد السيد مخرجًا عاديًا، بل كان ضميرًا فنيًا، وصوتًا هادئًا في زمن الضجيج، ومثالًا نادرًا على أن الإخلاص للفن يمكن أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة.
رحل الجسد، لكن السينما التي صنعها ستظل حاضرة، تطرح الأسئلة نفسها، وتطلب من كل جيل جديد أن يفكر، لا أن يكتفي بالوجود مشاهد من بعيدا خارج اللعبة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية