في كل مرة يسقط فيها يوسف، لا يكون الألم في ركبته فقط، بل في قلب والدته أيضًا، لم يكن تجاوز عمره خمس سنوات حين بدأت الكدمات الزرقاء تظهر على جسده بعد أي حركة بسيطة، وسرعان ما تحولت سقطاته العفوية إلى حالات نزيف تحتاج إلى تدخل طبي عاجل، "طفلك يعاني من الهيموفيليا"، قالها الطبيب بهدوء، لكنها سقطت على الأم كصفعة، لم تكن تعرف أن مرضًا نادرًا مثل هذا يمكن أن يحول حياة طفلها إلى سلسلة من المحاذير الطبية والممنوعات اليومية.

منذ تلك اللحظة، تغيرت تفاصيل الحياة: اللعب في الحديقة صار خطرًا، كرة القدم حلمًا مؤجلًا، وأي زيارة للأسنان قد تتحول إلى أزمة صحية، لكن يوسف ليس وحده، فهناك آلاف الأطفال في مصر يخوضون المعركة نفسها يوميًا، مع مرض يجعل من النزيف خطرًا صامتًا قد يهدد حياتهم في أية لحظة.

عدد المرضى في مصر
وهناك 250 حالة مرضية في مصر في العام الواحد، أمراض النزف الوراثية تصيب ما يقرب من 30- 40 حالة لكل مليون نسمة، طبقًا لإحصائيات جمعية أصدقاء مرضى النزف " الهيموفيليا" في مصر. 

وتشير الإحصائيات إلى أن عدد مرضى الهيموفيليا في مصر يتراوح بين 10,000 - 12,000 مريض، منهم حوالي 5,084 مصابًا بالهيموفيليا A، و1,144 مصابًا بالهيموفيليا B، وفقًا لتقرير الاتحاد العالمي للهيموفيليا لعام 2018.

ما هو الهيموفيليا؟
يوضح الدكتور أحمد سعد، استشاري أمراض الدم، أن "الهيموفيليا" مرض وراثي مزمن، ناتج عن نقص أو غياب أحد عوامل التجلط في الدم، مثل العامل الثامن (الهيموفيليا A) أو العامل التاسع (الهيموفيليا B)، ويؤدي هذا النقص إلى نزيف داخلي أو خارجي يصعب السيطرة عليه، حتى في حال الإصابات الطفيفة.

وأضاف؛ الهيموفيليا مرض نادر لكنه ليس نادر التأثير، ويحتاج إلى وعي مجتمعي، ونظام صحي يضمن التشخيص المبكر، وتوفير العلاج لجميع المرضى، فكل دقيقة تأخير في النزيف قد تعني ألمًا أو إعاقة أو حتى حياة مهددة بالخطر.

أعراض الهيموفيليا وأسبابها
تقول الدكتورة منى عبد الحليم، أخصائية طب الأطفال، تظهر الأعراض غالبًا في السنوات الأولى من عمر الطفل، وتشمل النزيف المتكرر داخل المفاصل، كدمات متكررة، نزيفًا بعد أي إجراء جراحي أو خلع للأسنان، نزيف مستمر بعد الحقن أو التطعيمات، وأحيانًا نزيف داخلي خطير كالنزيف الدماغي.

مضاعفات خطيرة
 المشكلة الكبرى في الهيموفيليا، والحديث ما زال لـ د. منى، ليست فقط في النزيف الظاهر، بل في النزيف الداخلي، خصوصًا داخل المفاصل، الذي يؤدي إلى تشوهات مزمنة وإعاقة إذا لم يُعالج بالشكل السليم، كما أن النزيف في المخ هو الأخطر، وقد يكون قاتلًا، متابعًا الأطفال المصابون يحتاجون إلى خطة علاج وقائية منتظمة، وتوفر مستمر لعوامل التجلط، وهي مكلفة جدًا، لذلك يجب أن يكون هناك دعم حكومي ومجتمعي لهؤلاء المرضى.

تحول نوعي في نهج العلاج 
وأكد الدكتور خالد عبد الغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، أن مصر أصبحت دولة رائدة عالميًا في علاج الأطفال المصابين بالهيموفيليا، بفضل اعتماد نهج وقائي يرتكز على البيانات وتحسين جودة الحياة، مشيرًا إلى أن نسبة الأطفال الذين يتلقون العلاج الوقائي ارتفعت من 20%- 80% خلال عامين فقط، ما أدى إلى تقليل عدد مرات النزيف بنسبة تتجاوز 80%، وخفض مضاعفات المفاصل ونزيف المخ بنسبة تصل إلى 85%، وتقليل أيام الحجز بالمستشفيات بنسبة 95%. 

وتابع العلاج الوقائي لا يعالج المرض فقط، بل يُغير نمط الحياة ويخفف العبء الاقتصادي على الدولة والأسرة، نحن نسير بخطى ثابتة نحو تعميم هذا النموذج، وتسريع التحول الرقمي في القطاع الصحي، لنجعل مصر نموذجًا يُحتذى به عالميًا في علاج مرضى الهيموفيليا. 
 
ويؤكد الدكتور شريف محسن، رئيس وحدة أمراض الدم بمستشفى أطفال مصر، اعتماد العلاج الوقائي مكن الأطفال من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، وممارسة الأنشطة المدرسية والرياضية دون خوف دائم من النزيف، لقد رأينا فرقًا ملحوظًا في الحالة الجسدية والنفسية لهؤلاء الأطفال.

تجربة العلاج المنزلي
أما الدكتورة نجلاء حسين، مسئولة وحدة الهيموفيليا بمستشفى النيل بشبرا، فتوضح أن من أهم التطورات التي أحدثت فارقًا حقيقيًا هي إمكانية تلقي العلاج الوقائي في المنزل، فبدلاً من التردد على المستشفى عدة مرات أسبوعيًا، أصبح بإمكان بعض المرضى المؤهلين تلقي العلاج في بيئة آمنة بمنزلهم، ما قلل الضغط على المستشفيات وساعد الأطفال على الالتزام بخططهم الدراسية والاجتماعية.