تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
في زمن يمكن فيه تغيير كل شيء بلمسة على الشاشة، يعيش كثير من الشباب في حالة نفسية تشبه "وضع الطيران"؛ يتحركون من وظيفة لأخرى خلال أشهر، وينهون علاقاتهم عند أول هزة، ويهربون من فكرة الالتزام خشية أن يتحول إلى قيد، رغم أن داخلهم يصرخ شوقًا إلى الطمأنينة.
وبين ضغوط المقارنات على السوشيال ميديا، والخوف من الفشل، والإرهاق الناتج عن كثرة الخيارات، ظهرت "متلازمة وضع الطيران" (Flight Mode Syndrome) - ظاهرة نفسية واجتماعية حديثة تفسّر لماذا بات البقاء في مكان واحد، أو مع شخص واحد، مهمة صعبة على جيل كامل، يناقش هذا التقرير ظاهرة "جيل الهروب" في زمن السرعة الرقمية، وتأثيرها على العمل والعلاقات والهوية.
وبين ضغوط المقارنات على السوشيال ميديا، والخوف من الفشل، والإرهاق الناتج عن كثرة الخيارات، ظهرت "متلازمة وضع الطيران" (Flight Mode Syndrome) - ظاهرة نفسية واجتماعية حديثة تفسّر لماذا بات البقاء في مكان واحد، أو مع شخص واحد، مهمة صعبة على جيل كامل، يناقش هذا التقرير ظاهرة "جيل الهروب" في زمن السرعة الرقمية، وتأثيرها على العمل والعلاقات والهوية.
العمل المؤقت والولاء المفقود
تكشف دراسة حديثة نشرها موقع Yahoo Finance عن اتجاه متزايد لدى المديرين نحو فصل موظفي الجيل زد (المولودين بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الثاني من الألفية)، فقد أقر ستة من كل عشرة أصحاب عمل بأنهم اضطروا إلى فصل موظفين من هذا الجيل خلال الأشهر الأولى من تعيينهم، بسبب ضعف الالتزام والسلوكيات غير المهنية.
بينما أشار واحد من كل ستة مديرين إلى تردده في توظيف خريجي الجامعات الجدد، ورأى نصفهم تقريبًا أن الشباب اليوم يفتقرون إلى الحافز والدافع للعمل.
الملل السريع
يقول الدكتور مصطفى زكريا، استشاري الطب النفسي والعلاج السلوكي المعرفي، إن جيل العشرينيات والثلاثينيات يعاني شكلاً جديدا من القلق يُعرف بـ "قلق الثبات"، وهو مزيج من الخوف من الفشل، والملل السريع، وصعوبة اتخاذ القرار.
ويوضح أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل مباشر في تضخيم هذا القلق من خلال تحفيزها اللحظي المستمر، ما يحرم الشباب تدريجيا من القدرة على الصبر أو الالتزام بأي شيء لفترة طويلة.
ويضيف، "عقول الشباب أصبحت معتادة على الانتقال المستمر بين المحتويات والأهداف، مما ينعكس على واقعهم فيصبحون غير قادرين على الثبات في عمل أو علاقة أو حتى فكرة لفترة كافية".
ويشير د. زكريا إلى أن متلازمة "وضع الطيران" تمثل في جوهرها شكلاً جديدا من اضطراب القلق الوجودي، تُغذيه ثلاثة عوامل رئيسية:
-الخوف من الفشل أو الرفض الذي يدفع لتجنب الالتزام
-الملل السريع الناتج عن التحفيز المفرط لوسائل التواصل
-إرهاق اتخاذ القرار بسبب تعدد الخيارات وتدفق المعلومات
ويلفت إلى أن كثيرًا من الشباب يفضلون البقاء في "المنطقة المؤقتة"، حيث لا يرتبطون كلياً ولا ينفصلون تمامًا، هربًا من تجربة الإحباط أو الخسارة، هذه المنطقة الرمادية تمنحهم إحساسًا زائفًا بالأمان بينما تزيد في الواقع من شعورهم بالتيه وعدم اليقين.
ويختتم، نرى تجليات هذه المتلازمة في سلوكيات يومية عديدة - من التبديل المستمر للعمل إلى الانسحاب من العلاقات عند أول خلاف، كلها مظاهر لعقل منهك بالسرعة، يهرب من الثبات كما يهرب من الفشل، حين يظن المرء أن الأفضل دائمًا في الأفق، يفقد قدرته على الرضا ويعيش في قلق دائم من الاستقرار.
ثقافة "البلوك"
هذا القلق الوجودي لا يقتصر على المجال المهني فقط، بل يمتد ليشكل طبيعة العلاقات العاطفية أيضًا، توضح الدكتورة زينب مهدي، أستاذة الطب النفسي والعلاقات الزوجية، أن هذا الجيل يعاني مما تسميه "الخوف من الانكشاف العاطفي".
وتضيف، هذه الحالة تجعل الكثيرين ينسحبون من العلاقات عند أول اقتراب حقيقي، خشية أن يُروا على حقيقتهم أو أن يتعرضوا للأذى، ثقافة "البلوك" و"الإخفاء" أسهمت في جعل إنهاء العلاقات أسهل من مواجهتها، حتى في أبسط الخلافات.
وتختتم بقولها إنه تناقض مؤلم يغذّيه الخوف، جيل يهرب من الارتباط وهو في داخله أكثر احتياجًا له.
جيل "الريستارت" الدائم
يرى الدكتور وليد محمد، أستاذ علم الاجتماع، أن متلازمة "وضع الطيران" لا يمكن فصلها عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، فهذا الجيل نشأ في بيئة فقدت الاستقرار الأسري والديني والوظيفي، فعاش في عالمٍ سريع التغيّر جعل التبدّل المستمر هو القاعدة لا الاستثناء.
ويصف هذا الجيل بأنه جيل "الريستارت" الدائم؛ يبدأ من جديد كل مرة، دون أن يُكمل شيئًا حتى النهاية، فالمجتمع الحديث ينتج جيلًا يعيش في نمط الاحتمالات المفتوحة؛ يخشى أن يُغلق أي باب خوفًا من فوات فرصة أفضل، لكنه يدفع في المقابل ثمن الوحدة والارتباك النفسي.
اقتصاد مؤقت واستقرار مفقود
الاقتصاد أيضًا ساهم في ترسيخ المتلازمة، تقول سارة ممدوح، استشارية علاقات أسرية وتربوية وخبيرة تنمية بشرية، العمل الحر والاقتصاد المؤقت جعلا الشباب يشعرون بالاستقلالية، لكنهم في المقابل فقدوا الإحساس بالانتماء؛ مع انتشار نمط الاقتصاد الحر، لم يعد الشاب يرى في الوظيفة قيمة دائمة، بل مجرّد محطة مؤقتة.
وتضيف خبيرة التنمية البشرية، الغلاء وعدم وضوح المستقبل الاقتصادي خلَقا خوفًا عميقًا من الالتزام، أصبح كثيرون يفضّلون العمل المؤقت لأنهم لا يثقون في دوام أي شيء، فالاقتصاد المؤقت عزّز فكرة الاستقلال دون انتماء.
الهروب آلية بقاء
قد لا تكون "متلازمة وضع الطيران" مرضًا بقدر ما هي صرخة جيلٍ يبحث عن التوازن بين الحرية والطمأنينة، جيل لم يرفض الحياة، لكنه يحاول أن يجد طريقه في عالم سريع لا يعرف الانتظار، وربما آن الأوان لأن نفهم أن الاستقرار لم يعد ضعفًا، بل شجاعة.. وأن البقاء، في زمن الهروب، نوع من المقاومة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية