تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > سبوت : في عصر الذكاء الاصطناعي.. هل يحلُّ الشيخ "جوجل" مكان "المفتي"؟
source icon

سبوت

.

في عصر الذكاء الاصطناعي.. هل يحلُّ الشيخ "جوجل" مكان "المفتي"؟

كتب: مصطفى ياسين

نعيش في ظلِّ التحوُّلات الرقمية المتسارِعة التي يشهدها العالم اليوم، ولم يَعُد الذكاءُ الاصطناعيُّ مُجرّدَ تَرَفٍ معْرِفيٍّ أو تقنية مستقبَلِيِّة بعيدة المنال، بل غدَا عنصرًا جوهريًّا في صناعة القرار وتوجيه السلوك وإعادة تشكيل مفاهيم السُلْطة والمعرفة في العصر الرقمي. 

وقد ألقى هذا التطوّر الهائل بظِلاله على ميدان الإفتاء الشرعي؛ إذ بات لزامًا إعادة بيان دُور "المفتي البَشَرِي" ووظيفته بوصفه مرجعيةً شرعية تُعْنَى لا بالنصوص وحدها، بل أيضًا بمُتغيّرات الواقع التي يُعيد الذكاءُ الاصطناعي إنتاجها على مدار اللحظة. 

من هنا تبرز ضرورة مُلِحَّة لصياغة إطار أخلاقي وضوابط شرعية للتعامُل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الإفتاء، بما يضمن بقاء الفتوى صحيحة المصادر، واضحة المقاصد، بعيدةً عن الانحراف أو التشويه.

وقد ثبُت أنَّ تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست دومًا مُحايدة، بل قد تكون منحازة بحكم اختيارات المُصمِّمين والمُطوّرين المُتعلّقة بكيفية بنائها، والبيانات التي تُدرِّب عليها، وطريقة تقديمها للمستخدِمين.

وفي المقابل، لا مانع من استخدام بعض أدوات المنطق البرمجي لتحليل تماسك البنية المنطقية للفتوى أو توافق الأدلّة ضمنًا، ما دامت لا تتدخّل في إصدار الحُكم ذاته، وهذا تمييز ضروري بين ما يُعيْن المفتي وما ينوب عنه، فالأول مطلوب، والثاني مرفوض.

المفتي الرشيد
وتأكيدًا لهذا يوضح الدكتور أسامة الأزهري - وزير الأوقاف- أن الرُّشد هو الغاية من الدين وشرائعه وأحكامه، وهو شعار الدين وعلامته، فكلمة "الرشد"، يُقصد بها القيمة المركزية الشرعية الكبرى التي ننطلق بها إلى عالم الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن تقنيات وآليات الذكاء الاصطناعي ليست مجرد محرِّك بحثي فائق السُرعة، يجمع المعلومات من كل المصادر الإلكترونية المتاحة، ولا يقتصر على تطبيقاته السطحية مثل (شات جي بي تي) أو (ديب سيك) أو غيرها، بل هو صناعة ثقيلة ينفِق فيها العالم من حولنا مليارات تدخل في مجالات الطب، والصناعة والتعليم والاتصالات والبرمجة، وجمع وتحليل البيانات والأمن السيبراني ويطوّر تطبيقات معقّدة في مجالات عدة.

ويؤكد د. الأزهري، أن المواهب والعقول تتبارى يومًا بعد يوم في تقديم رؤيتها وحكمتها للمخازن البحثية الإلكترونية، لتغترف منها محرّكات بحثّ الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أنه من خلال ذلك يولَد المفتي، والفيلسوف، والمفكّر، والخطيب والواعظ المفوَّه الرشيد في عالم الذكاء الاصطناعي.

مقوّمات ومبادئ
من جانبه يصف الدكتور محمد الضويني- وكيل الأزهر- الفتوى بأنها "صناعة"، وعِلم له مقوّمات وأركان ومبادئ، يُصْنَع المُفتي صُنعًا، فليس كلُّ مَن تصدَّرَ عبرَ شاشةٍ أو وسيلةٍ إعلاميَّةٍ يعد مفتيًا، وإن توارى خلف مصطلحاتِ العلمِ، أو تلفظ بألفاظٍ تحسبها من الفقه، وما هي من الفقهِ بسبيلٍ.

ويؤكد "د. الضويني" ضرورة وجود وعي عميق بإعداد المفتين إعدادًا متوازنًا يجمع بين التأصيل الشرعي والمهارات الرقمية، فالفتوى ليست مجرد كلمة عابرة من نوع “يجوز” أو “لا يجوز”، بل هي عملية علمية مركّبة تبدأ بفهم المسألة من واقع السائل، ثم تكييفها على القواعد الفقهية، وصولًا إلى إصدار الحكم بعد النظر في المآلات، لافتاً إلى أن هذه الصناعة تتطلّب وعيًا شرعيًّا راسخًا وبصيرةً نافذة.

وشدَّد وكيل الأزهر على أن الذكاء الاصطناعي لا يُمكن أن يكون بديلًا عن المفتي المؤهَّل، الذي يحمل على عاتقه أمانة البيان عن الله تعالى، واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها المعتبرة بفهم عميق وإدراك دقيق لمقاصد الشريعة من ناحية، ولأحوال الناس المتجدّدة من ناحية أخرى، موضحًا أن لهذه التقنيات الحديثة دورًا بنَّاءً في مجال الإفتاء، وفي خدمة العلماء والمفتين، من خلال تيسير الوصول إلى المصادر والمراجع، وترتيب البيانات وتحديثها، وتحليل كَمٍّ كبيرٍ من الفتاوى الشرعية، وإتاحة إجابات أوَّلِيَّة سريعة مبنية على المعلومات الموثوقة والمخزّنة، بما يسهم في دعم منظومة الفتوى، وإثراء محتواها وترشيدها.

زيادة الدقة
ويؤكد د. الضويني أن الذكاء الاصطناعي يمكن استثمار أدواته لزيادة دِقَّة البحث، وسُرعة الوصول إلى النصوص، وربط القضايا بنظائرها ومستجدّاتها، موضّحًا أن العقل البشري والمَلَكة الفقهية هما الفيصل.
ميثاق أخلاقي
ويوصى د. الضويني بضرورة وضع ميثاق أخلاقي يضبط التعامل مع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، بما يضمن ألا يتحول من أداة نافعة إلى وسيلة تنتهك الخصوصية، وتُقوِّض القيم والمبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها تماسك المجتمعات، كما يوضح أن الأزهر الشريف يعمل حاليًّا على صياغة وثيقة أزهرية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، من خلال لجنة عُليا بإشراف فضيلة الإمام الأكبر.

ويطالب "د. الضويني" بضرورة إعداد قائمة بالكفاءات والمهارات العلمية والعملية التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدّر للإفتاء باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، محذّرًا في الوقت ذاته من ذوبان الهُوية وضياع الشخصية في الفضاء الرقمي.

تحوُّلات غير مسبوقة
من جانبه، يوضح فضيلةُ الدكتور نظير محمد عيَّاد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أنَّ العالم اليوم يشهد تحوُّلات غير مسبوقة بفِعل ثورة الذكاء الاصطناعي، التي أثَّرت بشكل جذري على مختلف المجالات، مثل الطب والتعليم والإدارة، وفتحت آفاقًا جديدة للبحث العلمي وتطوير العمل المؤسسي، ولكنه شدَّد على أنَّ هذه التطورات التقنية تستوجب توظيفًا مسئولًا يخدم الإنسانية، خصوصًا في مجال الفتوى التي تتطلَّب توازنًا دقيقًا بين المرجعية الشرعية وأدوات العصر الرقمي. ويشير إلى أن الخطر يكمن في برمجة الفتوى دون ضوابط دقيقة؛ ما قد يحوِّل الدينَ من خطابِ هدايةٍ إلى خطابٍ ماديٍّ جامد، ينفصل عن روحه وأهدافه.

ويطرح د. نظير، مجموعةً من الأسئلة الفقهية الجوهرية المتعلّقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى، مثل قُدرة الآلة على فَهْم تعارض النصوص، ومراعاة النيَّات الإنسانية، والسياقات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وأَثَر اختلاف الزمان والمكان في صياغة الفتاوى، مؤكّدًا أن الذكاء الاصطناعيَّ يجب أن يكون أداة مساعِدة للمفتي، لا بديلًا عنه، بحيث يظل المفتي هو صاحب الرؤية المسؤولة، المبنية على خشية الله وبصيرة القلب وحكمة المقصد.

ويشدَّد فضيلة المفتي على أهمية تطوير الفتوى لتواكب تحوُّلات العصر الرقْمي، حيث لا يكفي أن تكون دقيقة فحسْب، بل يجب أن تحمل ضميرًا حيًّا ووعيًا أخلاقيًّا، مؤكّدًا دَوْرَ المؤسسات الدينية في وضع أُطُرٍ رقابية وأخلاقية صارمة لإدارة نُظم الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى، عبر إشراف هيئات علمية متخصصة تضم علماء شرعيين وخبراء تقنيين وفلاسفة الشريعة، لضمان شرعية المُخرجات وموثوقيتها.
ويوضح فضيلة المفتي أن إدماج تِقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى لا يمكن أن يكون بديلًا عن المفتي الرشيد، وإنما وسيلةٌ لتوسيع أدواته وتعزيز وعيِه بمتغيّرات العصر، محذّرًا في الوقت ذاته من مخاطر استحواذ الخوارزميات الجامدة على مرجعية الفتوى الدينية، وما قد يترتّب على ذلك من ترويج لأقوال شاذة، وتشويه للوعي الديني، وفصلٍ للنصوص عن مقاصدها الشرعية والأخلاقية.

كما يؤكَّد أن التعامل مع الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى ينبغي أن يكون بحذَر عميق، وأن يظلَّ مرتبطًا بمركزية الإنسان بوصفه فاعلًا أخلاقيًّا ومجتهدًا مسئولًا أمام الله والتاريخ، مشدّدًا على أنَّ الأنظمة الذكية لا تملك خشية الله، ولا بصيرة القلب، ولا حكمة المقصد، وهي الأركان الأساسية التي تقوم عليها صناعة الفتوى الرشيدة.

هلوسة الذكاء الاصطناعي
ويشير د. نظير، إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيدًا في المراحل التحضيرية للعملية الإفتائية، لا سيما في تصوير المسائل، وتحليل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وجمع النصوص وتنظيمها، لكنه لا يملك صلاحية إصدار الحكم الشرعي الذي يظل منوطًا بالمجتهد الرشيد، القادر على الترجيح بين الأدلة، لافتًا النظرَ إلى أنَّ من أبرز التحديات التي تواجه الفتوى في هذا العصر الرقمي هو ما يُعرف بـ "هَلْوَسَة الذكاء الاصطناعي"، حيث قد تنتج هذه النماذج فتاوى مختلَقَة بصياغة مقنعة، ما يُظهر ضرورة أن تظل المؤسسات الدينية حارسةً لشرعية الوعي، وقائدة لعَلاقة واعية بين النص والآلة.

ودعا فضيلته إلى ضرورة بناء نماذج ذكاء اصطناعي شرعية، مدرَّبة على قواعد الاستنباط، والضوابط اللُّغوية، وفهم المقاصد الشرعية، مع ضرورة إخضاعها لإشراف علمي مشترك بين علماء الشريعة وخبراء الذكاء الاصطناعي وفلاسفة المقاصد، مشيرًا إلى أهمية إنشاء مِنصَّات رقْمية موثوقة للفتوى تخضع لمراجعة مستمرة من لجان شرعية مؤهَّلة، ويُحدَّد لعملها ميثاق أخلاقي خاص، على غرار ما هو معمول به في المجالات الطبية والقضائية.

وباختصار، فالذكاء الاصطناعي خادم للفتوى، لا صانع لها، ومن ثمَّ فلابد من تدشين "مدوَّنة أخلاقية "لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في مؤسّسات الإفتاء، تَجَنُّبًا لأى مزالِق أو مشكلات إفتائية، وصولا لـ"حياة آمنة مُستقِرَّة".

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية