تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > سبوت : عند غياب الأب.. قواعد تربية المراهقين دون رجال
source icon

سبوت

.

عند غياب الأب.. قواعد تربية المراهقين دون رجال

كتب: مروة علاء الدين


   في أحد مراكز الاستشارات النفسية بالقاهرة، جلست أم في منتصف الأربعينيات تروي بحيرة كيف أن ابنها، البالغ من العمر 14 عامًا، أصبح سريع الغضب، يتقمص شخصيات ذكورية من المسلسلات، ويصر على الحديث عن "الرجولة" بتعصب وعنف، توفي والده منذ سنوات، وتخشى الأم أن يكون ابنها قد بدأ يبحث عن معنى "الرجولة" في أماكن خاطئة.

في ظل التحولات الاجتماعية المتسارعة، وتزايد أنماط التفكك الأسري، يظل غياب الأب سواء المادي أو الوجداني، من أكثر العوامل تأثيرًا على وعي وتكوين المراهقين، خاصة الذكور منهم. 


لا يكفي وجود الأب جسديًا داخل المنزل إذا كان الغياب العاطفي سيد الموقف، وفي عالم رقمي يضج بنماذج ذكورية مشوشة أو مشوهة، تتفاقم أزمة الهوية لدى المراهق الذي يبحث عن مرجعية تعرّفه معنى الرجولة واتزانها.

في هذا التقرير، نرصد أبعاد هذا الغياب من خلال وجهة نظر المتخصصين؛ لشرح التأثيرات النفسية العميقة المرتبطة بغيابه، ووضع بدائل واقعية وسيناريوهات دعم للأمهات والمجتمع

نموذجا أولياً

تشير الدكتورة سارة ممدوح، الاستشارية في العلاقات الأسرية والتربوية، إلى أن فترة المراهقة هي المرحلة التي يُعاد فيها تشكيل هوية الفرد، بما في ذلك هويته الجندرية، وتؤكد أن غياب الأب يُحدث خللًا في عملية "التماثل النفسي"، وهي العملية التي يتماهى فيها الابن مع الأب بوصفه نموذجًا أوليًا للرجولة.

تقول: "عندما يغيب هذا النموذج، يبدأ المراهق في البحث عن بديل، قد يكون ممثلًا، أو نجم كرة، أو حتى شخصية من عالم الإنترنت، وغالبًا ما تكون هذه النماذج مشوهة أو غير واقعية."

وتتابع أن المراهق في هذه المرحلة لا يحتاج فقط إلى حضور الأب الجسدي، بل إلى أبٍ حقيقي يُنصت، ويوجه، ويحتوي، "الحضور العاطفي والمعنوي لا يقل أهمية عن الحضور الفعلي، بل ربما يفوقه."

تصورات سطحية

من جانبه، يوضح الدكتور محمد عبد السلام، أستاذ علم النفس، أن مفهوم "الرجولة" يتكون لدى الطفل منذ الطفولة المبكرة، لكنه يُعاد تشكيله في المراهقة، حيث يبدأ في إدراك ذاته كذكر في المجتمع، ويسعى إلى تأكيد هذه الهوية من خلال محاكاة النموذج الأبوي.

ويحذر من أن غياب الأب يؤدي إلى اضطراب ما يُعرف بـ "الارتباط غير الآمن"، وهو شعور داخلي بعدم الأمان في العلاقة مع الذات والآخرين، ما يجعل المراهق أكثر عرضة للعنف، أو الانسحاب الاجتماعي، أو التعلق المرضي بأقرانه.

ويضيف: "أحيانًا، في البيئات التي يغيب عنها النموذج الذكوري، تنقلب الموازين، فيصبح التعبير عن الرجولة إما عدوانيًا مبالغًا فيه، أو ممسوح الملامح، خاضعًا لتصورات سطحية تستمد من الإنترنت."

غياب الأب وأزمة الهوية

 يرى محمد فضالي، المرشد النفسي المتخصص في دعم المراهقين، أن غياب الأب لا يُفضي دائمًا إلى خلل في الميول الجنسية، لكنه يفتح الباب أمام ما يسميه "الفراغ الوجودي" في حياة الطفل والمراهق. يقول: "المراهق في هذه الحالة يبدأ في طرح أسئلة وجودية مربكة: هل أنا طبيعي؟ لماذا أشعر بانجذاب غير مبرر؟ من أنا؟ هذه التساؤلات لا تعني بالضرورة شذوذًا جنسيًا، لكنها انعكاس لخلل في تكوين صورة الذات الجنسية، وهي المفهوم النفسي الذي يطوّره الفرد عن جنسه وجسده ونوعه الاجتماعي."

صورة الرجولة

 ويربط فضالي ذلك بما يسميه نموذج الأب المرجعي، وهو الشكل السليم للرجولة الذي يفترض أن يراه الطفل يوميًا، فيكتسب منه صفات التوازن، الحزم، الحنان، وضبط الانفعالات، وعند غياب هذا النموذج، سواء بسفر الأب، انفصاله، أو حتى انشغاله المفرط دون تواصل وجداني، يبدأ الطفل في الخلط بين الاحتياج العاطفي والانجذاب الجسدي، خاصة مع غياب ما يُعرف نفسيًا بـ"الاحتواء الجسدي العلاجي" أي العناق والتواصل البدني غير المشروط، الذي يشعر الطفل من خلاله بالأمان.

نماذج مشوشة 

ويضيف فضالي، "عندما لا يجد الطفل هذا الاحتواء، يبدأ في البحث عن بدائل مشوشة عبر الإنترنت، أو يجد نفسه منساقًا لنماذج ذكورية سامة أو مشوهة، تؤكد له أن الرجولة تعني العنف أو التسلط أو المظهر الخشن فقط."

آثار نفسية

 ويرى فضالي أن واحدة من أخطر الآثار الناتجة عن غياب الأب هي تشوّه مفهوم الهوية الذكورية، وهو ما قد يظهر في عدة صور: من التماشي مع الأدوار الأنثوية، إلى الغضب المفرط كوسيلة لإثبات الرجولة، أو حتى الانطواء والانكسار.

رابطة آمنة

 ومع ذلك، يؤكد أن هذا الغياب ليس قدرًا حتميًا، إذ يمكن تجاوزه بوجود بيئة داعمة تعزز ما يسميه علماء النفس بـ "الارتباط الآمن" أي الإحساس العميق بالأمان العاطفي، والذي يمكن أن تبنيه الأم أو أي نموذج بديل، شريطة ألا يحدث ما يسميه فضالي "التماثل النفسي الخانق" أي الذوبان الكامل بين الأم والابن، بحيث يفقد الطفل حدود ذاته واستقلاله.

نماذج الظل

 ويختم فضالي حديثه بالتأكيد على أهمية تعويض غياب الأب بنماذج ظلية، مثل الخال، العم، المدرب، المعلم، وهي ما يُطلق عليها تربويًا "نماذج الظل الذكورية"، داعيًا الأمهات إلى الانتباه لاختيار هذه النماذج بعناية، لأن ما يُقدَّم للطفل في سن المراهقة قد يترسخ كنموذج دائم له عن الرجولة.

طرق واعية

 من جهتها، ترى الاستشارية الأسرية والتربوية ميرفت رجب أن غياب الأب ليس كارثة، إذا ما تم التعامل معه بطريقة واعية، وتقول: "في الماضي، كانت هناك مؤسسات اجتماعية مثل المساجد، الجلسات العائلية، الأندية، تقوم بتقديم نماذج رجولية متزنة للأطفال، حتى في ظل غياب الآباء، أما اليوم، فالطفل يربّيه الإنترنت وخوارزمياته، التي لا تعترف بهوية أو قيم، ولا تملك ضميرًا أو موجهًا."

ضغط الأمهات

 وتحذر رجب الأمهات من الوقوع في فخ "الاحتراق العاطفي"، حين تحاول الأم أن تلعب كل الأدوار في وقت واحد: الأب، والأم، والموجه، والصديق؛ هذه المحاولات النبيلة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، فالطفل لا يحتاج إلى أم مثالية خارقة، بل إلى أم متزنة، تعرف متى تطلب الدعم، وتسمح للنماذج الذكورية الصحية بأن تظهر في حياة ابنها.

حدود العلاقة

 وتؤكد على أهمية "الحدود النفسية" بين الأم والابن، والتي تحفظ التوازن العاطفي داخل العلاقة، فحين تختفي هذه الحدود، يندمج الطفل مع الأم، يفقد القدرة على تكوين هوية رجولية مستقلة، لأنه لا يراها تُمارَس أمامه بشكل فعلي، بل تُشرح له بالكلام فقط.

القرية التربوية 

وتوصي رجب بعودة فكرة "القرية التربوية" أي أن يشارك المجتمع المحيط، بما فيه الجيران، الأصدقاء، الأقارب، في تقديم نماذج سلوكية داعمة للطفل، دون التدخل المباشر في تربيته، كما تشجع على إدماج المراهقين في أنشطة تنمي لديهم الشعور بالمسئولية والانضباط، مثل الرياضة والعمل التطوعي.

الغياب الوجداني

ويقول الدكتور علي النبوي الطبيب النفسي إنه يمكن للآباء تجنب "الغياب الوجداني" باتباع تلك الاستراتيجية:

1- تواصل يومي حقيقي (ليس شكليا): تخصيص ١٥ دقيقة يوميًا لحوار غير مشروط مع الابناء بدون توجيه نقدي أو أسئلة عن المدرسة فقط، والاستماع الفعال بدون مقاطعة أو هاتف في اليد.  

2- المشاركة في أنشطة مشتركة: مثل ممارسة رياضة أو هواية معًا (حتى لو مرة أسبوعيًا)، والخروج في نزهات قصيرة منفردين (مثل الذهاب للمقهى أو المشي).  

3- التعبير العاطفي الصريح: قول عبارات مثل: "أنا مهتم بما تشعر به"، "أنا هنا إذا أردت الحديث"، كذلك العناق واللمسات الداعمة (كربتة على الكتف) تُشعِر المراهق بالأمان.  

4- الحد من الانشغال التكنولوجي: ووضع قاعدة "لا هواتف أثناء الوجبات العائلية".  

5- الاعتراف بالخطأ وإصلاحه: فإذا شعر الأب أنه كان غائبا عاطفيا، يمكنه الاعتذار ببساطة.

تعليمات للأمهات 

ويضيف د. علي، أنه في حال غياب الأب جسدياً أو وجدانيًا فقط،  فهناك خطوات محددة للأمهات عند التعامل مع الأبناء:

1- ابحثي عن "نماذج ذكورية إيجابية": العم، الخال، الجد، المدرب الرياضي، أو حتى معلم موثوق، وشجعي ابنك على قضاء وقت معهم في أنشطة مثل الرياضة، الإصلاحات المنزلية، التطوع.  

2- تجنبي "التأنيث الزائد" للبيئة: ولا تحاولي تعويض غياب الأب بالتدليل المفرط أو القلق الزائد، واسمحي له بمساحة ليتخذ قرارات وينمي استقلاليته.  

3- شجعيه على الأنشطة الجماعية 

4- لا تنتقدي الأب أمامه: حتى لو كان الأب غائبا أو مقصرا، تجنبي الحديث السلبي عنه لكي لا يشعر الابن بالتمزق بين ولائه لك واحتياجه لأبيه.  

6- عززي لديه مفاهيم الرجولة الصحية: الرجولة تعني المسئولية، الاحترام، وقوة التحمل، وليس العنف أو التسلط.

7- اطلبي المساعدة عند الحاجة: إذا ظهرت علامات اضطراب من عدوانية مفرطة، انسحاب شديد، استشيري أخصائي نفسي للمراهقين.  

وختم الطبيب النفسي كلامه بأن الغياب العاطفي للأب ليس حكمًا بالإعدام على الصحة النفسية للمراهق، لكنه يتطلب وعيًا من الأسرة والمجتمع، الأهم هو الجودة وليس الكمية في العلاقة 10 دقائق من تواصل حقيقي يوميًا قد تغني عن ساعات من التواجد الجسدي بدون انتباه.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية