يتقرّب المسلمون إلى الله خلال الشهر الفضيل بالطيبات من العمل، طمعًا في الرحمة والمغفرة، مُقتدين بأعظم الحكم وأجلّ النصائح والمواعظ والتعاليم الدينية. الأمر ذاته دأب عليه المصري القديم، الذي تقرّب إلى الله في مختلف أيام السنة بفعل الخيرات، وترك الرذائل ليلقى ربه بصحيفة بيضاء، خالية من الشرور.

في كتابه "الشرق الأدني القديم.. مصر والعراق"، يقول الدكتور عبدالعزيز صالح، إن النصح والتوجيه في مصر القديمة تكفّل به أطراف ثلاثة هم "آباء مثقفون، ومعلمون من الكهان والمدنيين، ثم أدباء انتحلوا لأنفسهم سمات الآباء تارة وسمات المعلمين تارة سواها، وتفاوتت المستويات الاجتماعية للأطراف الثلاثة، فكان منهم أمراء ووزراء، جنباً إلى جنب مع أفراد من أواسط الكتاب والكهان؛ مما يعني أن الحكمة لم تكن وقفاً على طبقة معينة من الناس دون أخرى.

بتاح حتب

تناول الكتاب "حكم بتاح حتب"، باعتبارها أقدم الدساتير والأدبيات الدينية والأخلاقية التي عرفتها الإنسانية، ما يؤكد أن مصر كان لها قصب السبق في الإنتاج الفكري، ويدل على تقدّمها لكافة الأمم القديمة في سن التشريعات والمناهج القويمة التي تضمن سير المُجتمع على الخطى الصحيحة أخلاقيًا ودينيًا.

وكان "بتاح حوتب" من أقدم أصحاب التعاليم، ووزيراً من القرن الخامس والعشرين ق.م، في عهد الملك إسسي، أي منذ قرابة الخمسة ألاف سنة، ونقلت تعاليمه عن ثلاث برديات، إحداهما بردية "بريسي" في فرنسا، واثنتان في إنجلترا.

أحبب زوجتك

قدّم "بتاح حتب" لابنه مجموعة من النصائح، لتكون دستورًا ومنهجًا له في حياته، ووثقت هذه التعاليم على جدران المعابد، لتكون شريعة مصرية يقتدي بها مَن يأتي مِن بعده، حيث صوّر له سبيل الاستقرار في الأسرة قائلاً: إذا أصبحت كفئاً كوّن أسرتك، وأحبب زوجتك في حدود العرف أو عاملها بما تستحق، أشبع جوفها، واستر ظهرها، وعطّر بشرتها بالدهن، فالدهن ترياق بدنها، وأسعدها ما حييت، فالمرأة حقل نافع لولي أمرها، ولا تتهمها عن سوء ظن، وامتدحها تُخبت شرها، فإن نفرت راقبها واستمل قلبها بعطاياك تستقر في دارك، وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرة في دارها".

كن سمح الوجه

وفي مقابل نصيحته بالقيام بالمسئوليات الأسرية، دعاه إلى سُبل التنعم مع البساطة والتوسط قائلاً: ساير نفسك ما حييت، ولكن لا تتجاوز العرف، وإياك أن تبتر ساعة المتعة، فالنفس تأبى أن يفسد وقت متعتها، ولا تستنفد من شئون اليوم أكثر مما يعول دارك، وعندما يواتيك الثراء ينبغي أن يستمتع القلب، فلن يجدي الثراء إذا أهُمل القلب، وكن سمح الوجه ما دمت حياً، فإن ما يخرج من الشونة لن يعود فيدخلها.

حفظ النفس الجسد

كما أوصى ابنه بالحياء وعصمة الجسد، قائلًا: "احذر مخالطة النساء، فمن سوء الرأي أن يتلصص عليهن إنسان، فكم من امرىء ضل عن رشاده وتلصص عليهن، فتحولت فترات متعته إلى أحلام مُفزعة، وانتهت حياته إلى الهلاك. ثم عقب على ذلك قائلًأ: ينساق الفتى إلى الإثم، والإثم عار، واربأ بنفسك عن وخز الضمير كل نهار، ولا تخضع لمطالب بدنك، فإذا ضل الفؤاد وأطاع جسده، تعس عقله وساء وجهه بما جرته عليه نفسه، فمن أطاع بدنه كان عدو نفسه.

انصاف المظلوم

أوصى "بتاح حتب"، ابنه بحُسن الاستماع في رد المظالم، وتحقيق الشكاوى بين الناس، قائلًا: إذا أصبحت صاحب منصب وجاه، فترفق حين تستمع إلى حديث الشاكي، ولا تنهره حتى يفضي بما في جوفه ويحكى ما جاء من أجله، فالمُتظلّم يحب أن يؤمّن السامع على قوله حتى ينهي مظلمته، والمهموم قد يفضّل أن يواسيه السامع عن أن يقضي له حاجته، ومن شأن حسن الاستماع أن يريح الفؤاد.

طاعة الرئيس

كما أمر "بتاح حتب"، ابنه بوجوب طاعة رئيسه، قائلًا: عليك بطاعة رئيسك أياً ما كان، باعتباره أكبر في السن والمقام، وبيده المنع والعطاء، وباعتباره ممثلاً للملك، واستخدم لذلك عبارات تليق بمنصبه وجاهه. وحثه أيضًا على العمل والاجتهاد: الرجل من قال اكتسبت بعملي، وليس الرجل من قال أتمنى لنفسي، فإذا عزمت أن تحيا بالقناعة أتاك ما قدّره لك الرب بأكمله، والرزق هو إرادة الرب، والجحود في الاعتراض على إرادته، واختتم بقوله: الغني الحقيقي أن تزكو سمعتك بغير أن تتكلم، ويُطريك الناس من حيث لا تعلم.

أشهر الحكم

ومن أبرز حِكم "بتاح حتب" وأمثاله: "يجب أن يكون السلوك سويًا لدرجة قياسه على الشاقول"، "الظلم موجود بوفرة، ولكن الشر لا يمكن أبدًا أن ينجح على المدى الطويل"، "عاقب وفق القواعد، وإذا عُلـّمت فليكن تعليمك ذو معنى"، "لا تؤدي أعمال الإنسان إلى شيء، وإنما الإرادة الإلهية هي السائرة"، "من يرشدهم الإله لا يضلوا، ومن يبعد قاربهم الإله فلن يستطيعوا العبور".

تضمنت أبرز الحكم أيضا، "اتبع قلبك طوال حياتك، ولا تزيد العنف تجاه ما تقرر"، "إذا كنت تعمل بجد، وإذا كان نمو الحقول كما ينبغي، فذلك لأن الله قد وضع البركة في يديك"، "لا تثرثر في حيّك، فالناس تحترم الصامت"، "إذا أصغى المستمع إصغاء جيدا، فسوف يفهم جيدا". "لا تتحدث إلا عندما يكون لديك شيء يستحق أن تقوله".