تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
لم تكتمل أحلامه كما كان يخطط لها، ولم يمنحه الواقع المساحة الكافية لتحقيق كل ما كان يتصوره على الشاشة، برحيله فقدت السينما المصرية واحدًا من أكثر مخرجيها عمقًا وخصوصية؛ داود عبد السيد، فيلسوف السينما، وأحد أعمدة الواقعية الجديدة، التي فقدت تباعًا معظم رموزها الكبار، بعد عاطف الطيب، ومحمد خان، وعلي عبد الخالق، وأسامة فوزي.
كانت أحلام داود عبد السيد دائمًا أكبر من المتاح، وأوسع من شروط السوق، ظل حتى أيامه الأخيرة يُعدّ لفيلمه الجديد «رسائل حب»، وبدأ بالفعل تصوير بعض مشاهده مع منة شلبي وعمرو يوسف، قبل أن يتوقف المشروع فجأة، عقب تراجع الشركة المنتجة عن الميزانية المتفق عليها، والتي كانت مقدرة بـ 12 مليون جنيه، لتُخفض إلى خمسة ملايين فقط، وهو ما اعتبره المخرج تقويضًا حقيقيًا لرؤيته الفنية، فتعثر الحلم الأخير ولم يكتمل.
ولم تتوقف أحلامه عند هذا الحد؛ إذ راهن على تقديم محمد رمضان في عمل سينمائي مختلف، كما سبق أن راهن على شعبان عبد الرحيم في فيلم «مخبر وحرامي»، وحقق به نجاحًا كبيرًا، غير أن هذه الأحلام جميعها لم تكتمل، ليُعلن في عام 2022 اعتزاله، محبطًا ومكتئبًا مما رآه من تعثر لكل عمل يكتبه أو يشرع في تنفيذه. فقد كان داود عبد السيد يكتب معظم أفلامه بنفسه، حتى وُصف بـ «صانع سينما المؤلف».
سينما الفكرة قبل الحكاية
عن داود عبد السيد، يقول الناقد محمود عبد الشكور: «كنت قريبًا جدًا منه، تربطنا صداقة طويلة، وأحببت أفلامه جميعًا تقريبًا، ومن بينها فيلمه (أرض الأحلام)، هذا الفيلم تحديدًا له مكانة خاصة؛ فهو آخر أفلام فاتن حمامة، وهو الفيلم الوحيد الذي أخرجه داود عن سيناريو كتبه غيره، وهو السيناريست هاني فوزي».
في «أرض الأحلام» تبدو الحكاية في ظاهرها بسيطة؛ سيدة خائفة، تتعثر في كل شيء، حتى في نطق الحروف، وتجد نفسها في سن متقدمة أمام فكرة السفر، ثم أمام ما هو أخطر مواجهة الذات، تلتقي بشخص نقيض لها تمامًا، ساحر محترف يعيش يومًا بيوم بلا خوف أو حسابات، لكن خلف هذه الحكاية البسيطة، كان داود عبد السيد يطرح واحدة من أهم أفكاره الفلسفية المتكررة: العجز في مواجهة القدرة.
وهي الفكرة نفسها التي تتردد بوضوح في أفلام قدرات غير عادية، الكيت كات، ورسائل البحر، وتشكل خطًا أساسيًا في أرض الخوف، وقبل ذلك في الفيلم شديد الأهمية البحث عن سيد مرزوق.
كان داود عبد السيد بارعًا في بناء مفارقاته الدرامية، لعبته المفضلة، كما يصفها النقاد، أن يضع شخصًا عاجزًا أو مقيدًا أمام شخص حر وقادر، مختلف عنه جذريًا، ثم يترك المشاهد أمام السؤال الأكبر: لماذا نكبت قدراتنا بأيدينا؟ لم يكن يقدم إجابات جاهزة، بل يترك الكاميرا والأسئلة تعمل في صمت.
ويحكي محمود عبد الشكور عن تجربته الشخصية مع "أرض الأحلام" قائلًا: «لهذا الفيلم ذكرى خاصة معي؛ لأنه أول فيلم أكتب عنه مقالًا منشورًا في مجلة (أكتوبر)، اضطررت لمشاهدته في سينما طيبة بمدينة نصر، بعدما رُفع سريعًا من دور العرض في وسط البلد، وكانت تلك المرة الوحيدة التي أدخل فيها سينما طيبة، وربما أعيد نشر هذه المقالات الورقية القديمة بعد تحويلها إلى صيغة إلكترونية، كما كتبت دراسة تفصيلية عن الفيلم في كتابي (داود عبد السيد.. سيرة سينمائية)، الصادر عن دار ريشة».
فاتن حمامة ويحيى الفخراني.. قمم الأداء
يُعد «أرض الأحلام» من أفضل أدوار فاتن حمامة على الإطلاق، شخصية «نرجس» بدت من لحم ودم، نرى نماذجها في كل مكان؛ امرأة مقيدة من الداخل، أسيرة خوفها، في مقابل أمها (أمينة رزق) التي تمتلك جرأة الحياة، إلى حد الزواج في سن متقدمة. قدمت فاتن حمامة الدور ببراعة شديدة ولمسات كوميدية رقيقة، فبدت الشخصية مثيرة للرثاء أكثر مما هي مثيرة للسخرية.
أما شخصية الساحر، فكانت من أفضل أدوار يحيى الفخراني في السينما، حيث جسد نموذج الإنسان الحر، الخفيف، الذي يعيش بلا قيود، ولهذا يُعد الفيلم عمومًا واحدًا من أجمل وأهم أفلام داود عبد السيد.
خسارة جيل كامل
يقول مدير التصوير محمود عبد السميع إن السينما المصرية، برحيل داود عبد السيد، تكون قد فقدت معظم مخرجي الواقعية الجديدة، وعلى رأسهم محمد خان، وعاطف الطيب، وعلي عبد الخالق، ويضيف أن داود كان بحق "فيلسوف السينما وصانع التحديات"، رغم قلة أعماله، إذ لم يقدم سوى تسعة أفلام فقط، بدأها بـ "الصعاليك" واختتمها بـ "قدرات غير عادية".
وكان داود عبد السيد، كما يصفه المقربون، صديقًا ودودًا، مثقفًا، محبًا للحياة، وواحدًا من أكثر السينمائيين صدقًا ونزاهة في تعامله مع الكاميرا.
ومن جانبه، قال الأمير أباظة، رئيس مهرجان الإسكندرية السينمائي ورئيس جمعية كتاب ونقاد السينما: «كنت أتواصل معه بشكل دوري للاطمئنان على صحته، وعندما كرمناه في مهرجان الإسكندرية وأصدرنا عنه كتابًا، كان فخورًا جدًا بذلك، تعاونّا كثيرًا في دورات المهرجان من خلال لجان التحكيم، وكان حضوره دائمًا مؤثرًا».
سيرة ومسار
وُلد داود عبد السيد في 23 نوفمبر 1946، وتوفي في 27 ديسمبر 2025 عن عمر ناهز 79 عامًا. بدأ حياته المهنية مساعدَ مخرج في عدد من الأفلام البارزة، منها «الأرض» ليوسف شاهين، و«الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ، و«أوهام الحب» لممدوح شكري، قبل أن يقرر التوقف عن هذه المهنة، قائلًا في أحد حواراته: «لم أحب مهنة المساعد، كنت تعيسًا جدًا وأملّ كثيرًا، إنها تتطلب تركيزًا أفتقده، فأنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جدًا».
حمل الكاميرا وانطلق إلى شوارع القاهرة، صانعًا أفلامًا تسجيلية اجتماعية مهمة، مثل: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» (1976)، و«العمل في الحقل» (1979)، و«عن الناس والأنبياء والفنانين» (1980). وقد منحت هذه التجربة أفلامه الروائية عمقًا إنسانيًا ومعرفة دقيقة بالمجتمع المصري بمختلف طبقاته.
وحصل داود عبد السيد على عشرات الجوائز، من بينها جائزة العمل الأول عن «الصعاليك»، وجائزة الهرم الفضي عن «أرض الخوف»، وعدة جوائز في السيناريو والإخراج من مهرجانات القاهرة، والإسكندرية، ودمشق، والبحرين، وسورينتو، كما اختيرت ثلاثة من أفلامه ضمن قائمة أهم 100 فيلم عربي التي أصدرها مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013، وكرمته مهرجانات الجونة والإسكندرية تقديرًا لعطائه السينمائي الكبير.
كانت أحلام داود عبد السيد دائمًا أكبر من المتاح، وأوسع من شروط السوق، ظل حتى أيامه الأخيرة يُعدّ لفيلمه الجديد «رسائل حب»، وبدأ بالفعل تصوير بعض مشاهده مع منة شلبي وعمرو يوسف، قبل أن يتوقف المشروع فجأة، عقب تراجع الشركة المنتجة عن الميزانية المتفق عليها، والتي كانت مقدرة بـ 12 مليون جنيه، لتُخفض إلى خمسة ملايين فقط، وهو ما اعتبره المخرج تقويضًا حقيقيًا لرؤيته الفنية، فتعثر الحلم الأخير ولم يكتمل.
ولم تتوقف أحلامه عند هذا الحد؛ إذ راهن على تقديم محمد رمضان في عمل سينمائي مختلف، كما سبق أن راهن على شعبان عبد الرحيم في فيلم «مخبر وحرامي»، وحقق به نجاحًا كبيرًا، غير أن هذه الأحلام جميعها لم تكتمل، ليُعلن في عام 2022 اعتزاله، محبطًا ومكتئبًا مما رآه من تعثر لكل عمل يكتبه أو يشرع في تنفيذه. فقد كان داود عبد السيد يكتب معظم أفلامه بنفسه، حتى وُصف بـ «صانع سينما المؤلف».
سينما الفكرة قبل الحكاية
عن داود عبد السيد، يقول الناقد محمود عبد الشكور: «كنت قريبًا جدًا منه، تربطنا صداقة طويلة، وأحببت أفلامه جميعًا تقريبًا، ومن بينها فيلمه (أرض الأحلام)، هذا الفيلم تحديدًا له مكانة خاصة؛ فهو آخر أفلام فاتن حمامة، وهو الفيلم الوحيد الذي أخرجه داود عن سيناريو كتبه غيره، وهو السيناريست هاني فوزي».
في «أرض الأحلام» تبدو الحكاية في ظاهرها بسيطة؛ سيدة خائفة، تتعثر في كل شيء، حتى في نطق الحروف، وتجد نفسها في سن متقدمة أمام فكرة السفر، ثم أمام ما هو أخطر مواجهة الذات، تلتقي بشخص نقيض لها تمامًا، ساحر محترف يعيش يومًا بيوم بلا خوف أو حسابات، لكن خلف هذه الحكاية البسيطة، كان داود عبد السيد يطرح واحدة من أهم أفكاره الفلسفية المتكررة: العجز في مواجهة القدرة.
وهي الفكرة نفسها التي تتردد بوضوح في أفلام قدرات غير عادية، الكيت كات، ورسائل البحر، وتشكل خطًا أساسيًا في أرض الخوف، وقبل ذلك في الفيلم شديد الأهمية البحث عن سيد مرزوق.
كان داود عبد السيد بارعًا في بناء مفارقاته الدرامية، لعبته المفضلة، كما يصفها النقاد، أن يضع شخصًا عاجزًا أو مقيدًا أمام شخص حر وقادر، مختلف عنه جذريًا، ثم يترك المشاهد أمام السؤال الأكبر: لماذا نكبت قدراتنا بأيدينا؟ لم يكن يقدم إجابات جاهزة، بل يترك الكاميرا والأسئلة تعمل في صمت.
ويحكي محمود عبد الشكور عن تجربته الشخصية مع "أرض الأحلام" قائلًا: «لهذا الفيلم ذكرى خاصة معي؛ لأنه أول فيلم أكتب عنه مقالًا منشورًا في مجلة (أكتوبر)، اضطررت لمشاهدته في سينما طيبة بمدينة نصر، بعدما رُفع سريعًا من دور العرض في وسط البلد، وكانت تلك المرة الوحيدة التي أدخل فيها سينما طيبة، وربما أعيد نشر هذه المقالات الورقية القديمة بعد تحويلها إلى صيغة إلكترونية، كما كتبت دراسة تفصيلية عن الفيلم في كتابي (داود عبد السيد.. سيرة سينمائية)، الصادر عن دار ريشة».
فاتن حمامة ويحيى الفخراني.. قمم الأداء
يُعد «أرض الأحلام» من أفضل أدوار فاتن حمامة على الإطلاق، شخصية «نرجس» بدت من لحم ودم، نرى نماذجها في كل مكان؛ امرأة مقيدة من الداخل، أسيرة خوفها، في مقابل أمها (أمينة رزق) التي تمتلك جرأة الحياة، إلى حد الزواج في سن متقدمة. قدمت فاتن حمامة الدور ببراعة شديدة ولمسات كوميدية رقيقة، فبدت الشخصية مثيرة للرثاء أكثر مما هي مثيرة للسخرية.
أما شخصية الساحر، فكانت من أفضل أدوار يحيى الفخراني في السينما، حيث جسد نموذج الإنسان الحر، الخفيف، الذي يعيش بلا قيود، ولهذا يُعد الفيلم عمومًا واحدًا من أجمل وأهم أفلام داود عبد السيد.
خسارة جيل كامل
يقول مدير التصوير محمود عبد السميع إن السينما المصرية، برحيل داود عبد السيد، تكون قد فقدت معظم مخرجي الواقعية الجديدة، وعلى رأسهم محمد خان، وعاطف الطيب، وعلي عبد الخالق، ويضيف أن داود كان بحق "فيلسوف السينما وصانع التحديات"، رغم قلة أعماله، إذ لم يقدم سوى تسعة أفلام فقط، بدأها بـ "الصعاليك" واختتمها بـ "قدرات غير عادية".
وكان داود عبد السيد، كما يصفه المقربون، صديقًا ودودًا، مثقفًا، محبًا للحياة، وواحدًا من أكثر السينمائيين صدقًا ونزاهة في تعامله مع الكاميرا.
ومن جانبه، قال الأمير أباظة، رئيس مهرجان الإسكندرية السينمائي ورئيس جمعية كتاب ونقاد السينما: «كنت أتواصل معه بشكل دوري للاطمئنان على صحته، وعندما كرمناه في مهرجان الإسكندرية وأصدرنا عنه كتابًا، كان فخورًا جدًا بذلك، تعاونّا كثيرًا في دورات المهرجان من خلال لجان التحكيم، وكان حضوره دائمًا مؤثرًا».
سيرة ومسار
وُلد داود عبد السيد في 23 نوفمبر 1946، وتوفي في 27 ديسمبر 2025 عن عمر ناهز 79 عامًا. بدأ حياته المهنية مساعدَ مخرج في عدد من الأفلام البارزة، منها «الأرض» ليوسف شاهين، و«الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ، و«أوهام الحب» لممدوح شكري، قبل أن يقرر التوقف عن هذه المهنة، قائلًا في أحد حواراته: «لم أحب مهنة المساعد، كنت تعيسًا جدًا وأملّ كثيرًا، إنها تتطلب تركيزًا أفتقده، فأنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جدًا».
حمل الكاميرا وانطلق إلى شوارع القاهرة، صانعًا أفلامًا تسجيلية اجتماعية مهمة، مثل: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» (1976)، و«العمل في الحقل» (1979)، و«عن الناس والأنبياء والفنانين» (1980). وقد منحت هذه التجربة أفلامه الروائية عمقًا إنسانيًا ومعرفة دقيقة بالمجتمع المصري بمختلف طبقاته.
وحصل داود عبد السيد على عشرات الجوائز، من بينها جائزة العمل الأول عن «الصعاليك»، وجائزة الهرم الفضي عن «أرض الخوف»، وعدة جوائز في السيناريو والإخراج من مهرجانات القاهرة، والإسكندرية، ودمشق، والبحرين، وسورينتو، كما اختيرت ثلاثة من أفلامه ضمن قائمة أهم 100 فيلم عربي التي أصدرها مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013، وكرمته مهرجانات الجونة والإسكندرية تقديرًا لعطائه السينمائي الكبير.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية