بعد نصف قرن على الرحيل، لا تزال أم كلثوم أيقونة الطرب العربي، تركت بصمة عبر الزمان في القلوب، وتأتي ذكراها الخمسين بالعديد من الفعاليات لتكريم مشوارها الفني، حيث يقوم المسرح الفرنسي "فيلهارموني دي باريس" باستضافة أوركسترا الموسيقى العربية، والمدهش في الأمر هو نفاذ تذاكر الحفل بعد الإعلان عنه بساعات محدودة.
كما سيتم الاحتفال أيضاً بنفس المناسبة بمسرح ماسبيرو كأول حفل على هذا المسرح منذ سنوات من إغلاقه، ويحييه كوكبة من المطربين بمجموعة من أجمل أغاني كوكب الشرق، كما سيتم تكريم أسرة مسلسل "أم كلثوم" ومنح فريق عمله جائزة تقدير بمناسبة ذكراها العطرة.

أبهرت فرنسا ووحدت العرب
احتفال فرنسا باليوبيل الذهبي على رحيل أم كلثوم له تاريخ طويل، هكذا بدأ حديثه الدكتور أشرف عبدالرحمن الأستاذ بأكاديمية الفنون، مؤكداً أن علاقة أم كلثوم بفرنسا وطيدة جداً، تعود لعام 1967 بعد النكسة بشهور قليلة، حينما بدأت في عمل حفلات خارجية لدعم المجهود الحربي، ويعتبر حفل أم كلثوم الأول على مسرح الأولمبيا -الذي تم افتتاحه عام 1888 وله عراقة عندهم مثل دار الأوبرا الخديوية في الماضي لدينا- من أهم الحفلات في تاريخ فرنساحيث اتفقت أم كلثوم على الحفل مع شخص يدعى "كوكا ماتركس" وطلبت أم أجراً يقارب 14 ألف جنيهاً إسترليني، وهو ما يعادل ضعف أجر أغلى مطرب في العالم غنى على مسرح الأوليمبيا حينها.

 قدمت أم كلثوم حفلتين وقتها يومي 16 و15، وحقق المسرح أعلى إيراد له في تاريخه، وباع التذاكر بعشرة أضعاف السعر المتعارف عليه وقتها، بل وبيعت بأكملها، مما دفعهم لبيع تذكرة وقوف في المسرح.
وأصبحت هذه الحفلات تاريخية في ذاكرة فرنسا الفنية، وتحكي عن أم كلثوم الأسطورة التي ظلت تغني في الحفلة الواحدة قرابة الخمس ساعات ويزيد، مما أبهرهم فالفرنسيون لم يروا مثل ذلك من قبل في أي مكان في العالم إلا عند كوكب الشرق، لذلك كان الحرص على دعوة دار الأوبرا المصرية لإحياء ذكراها الخمسين في أحد أكبر وأشهر مسارحها وهو فيلهارموني دي باريس.
الاحتفالية باستضافة أوركسترا الموسيقى العربية، بقيادة المايسترو علاء عبدالسلام، ويتغنى بباقة من أغاني كوكب الشرق مجموعة من أبرز مطربي دار الأوبرا المصرية منهم إيمان علاء ورحاب عمر.

احتفال ماسبيرو
كما ينظم مسرح ماسبيرو حفلاً غنائياً في ذكرى وفاتها، يشدو فيه المطربون بأغنيات كوكب الشرق، بالإضافة إلى عمل متحف لمقتنيات أم كلثةم في مدخل المسرح، يضم مجموعة من فساتينها، والفساتين التي ظهرت بها بطلة مسلسل "أم كلثوم" الفنانة صابرين، بالإضافة للميكروفون الذي كانت تستخدمه في تسجيل أغنياتها.
يصاحب ذلك تكريم فريق عمل مسلسل "أم كلثوم"، على رأسهم مخرجة العمل إنعام محمد علي، واسم الراحل محفوظ عبد الرحمن، والموسيقار عمار الشريعي، بالإضافة إلى تكريم صابرين، ناصر سيف، هاني كمال، سميرة عبد العزيز، نادية رشاد، خالد الصاوي، ريهام عبد الحكيم، منال سلامة، والفنان القدير رشوان توفيق

مرحلة انتقالية
ويضيف د. أشرف، أن أم كلثوم بالنسبة للعرب ليست مجرد مطربة ممتازة وحسب بل هي الأيقونة والمعجزة الفنية العربية التي لم ولن تتكرر، لأنها مرت بظروف سياسية واجتماعية وثقافية ويضاف لها كل العناصر التي من شأنها تشكيل المعجزة على مدار ستين عاماً، لذلك لو أن هناك مطربة في الوقت الحالي توفر لها صوت أم كلثوم فإنها لن تستطيع أن تنال مثل قدرها لأنها لن تمتلك مثل شخصيتها التي شكلتها ما ذكرناه من مختلف العناصر السابقة، فأم كلثوم كانت المرحلة الانتقالية بين عصر التطريب وعصر التعبير، عاصرت مجموعة من الشعراء غيروا شكل الأغنية تماماً مثل أحمد شوقي، أحمد رامي، حيث تعاونت مع 46 شاعراً حتى من شعراء العصر القديم عليها، منهم أبو فراس الحمداني الذي تغنت له بقصيدة " أراك عصي الدمع " ثلاث مرات بثلاثة ألحان مرة بلحن عبده الحامولي، ومرة زكريا أحمد، والثالثة من ألحان رياض السنباطي.
كما تعاونت كوكب الشرق مع 11 ملحناً من أجيال وأفكار مختلفة من أجل أن تضيف لها نغمات جديدة مع كل جيل.
     
فنانة عابرة للزمن والأجيال
ويقول الناقد الفني محمد شوقي،أن أم كلثوم هي واحدة من أهم نساء العالم في تاريخ القرن العشرين، حيث أوضح لنا أن هذه السيدة العظيمة صنعت مجدها من تحت الصفر، واستطاعت تثقيف نفسها وتعلمت الكثير والكثير من مفردات عصرها إلى أن صارت سيدة صالون، إلى جانب البطانة التي كانت بجوارها من علية القوم مثل طلعت باشا حرب، مصطفى باشا عبدالرازق، وكبار الموسيقين مثل أبوالعلا محمد، محمد القصبجي، زكريا أحمد، السنباطي، والشاعر أحمد رامي الذي يعتبر مؤسسة ثقافية، وبيرم التونسي.
وتعتبرأم كلثوم هي الفنانة الوحيدة التي كان يتم استقبالها رسمياً، وكانت تحمل جواز سفر دبلوماسي، وهي أيضا الفنانة الوحيدة في العالم التي أرسلت فيها لرئيس الجمهورية برقيات تعزية حين وفاتها وكأنها زعيم سياسي كبير، أم كلثوم ظاهرة استسنائية ليست كفنانة فقط في مصر والوطن العربي فقط بل في العالم بأسره.
دور وطني
ويكمل شوقي، من ينسى ما فعلته للمجهود الحربي بعد نكسة 1967، حيث كونت كتيبة هي قائدها وجمعت كل الجمعيات النسائية المصرية في جمعية واحدة " التجمع الوطني للمرأة المصرية " مع المحامية فريدة عبدالرحمن، وعملت لجان من هذه الجمعية منها لجان للمستشفيات، ولجان لأسر الشهداء والمصابين، ولجان لجمع التبرعات، وغيرها لجمع المصوغات، فاستطاعت أن تشكل كتيبة ضخمة من المتطوعين لخدمة الوطن، وجمعت ما يزيد على ثلاثة ملايين جنيه وثمانمائة وخمسين ألف من الجنيهات، إضافة لما يقدر بأكثر من مائة كيلو ذهب، فكرمها السادات في صف واحد بجانب أبطال حرب أكتوبر باعتبارها واحدة من أبطال النصر.

احتفاء داخلي وخارجي
يقول الناقد الموسيقي أحمد سماحي، ما يحدث هذه الأيام من الاستعدادات الضخمة للاحتفال بالذكرى الخمسين على رحيل أم كلثوم يعود إلى أنها أسطورة خالدة في كل شيء، في حياتها الشخصية وفي فنها وفي اختياراتها للأعمال التي تغنت بها أو مثلتها في أعمال سينمائية.
أم كلثوم أحبت الفن واعتبرته رسالة وأدركت قيمته في تكوين وتشكيل الوعي العام ، فهي فنانة مرهفة الحس، وما يحدث من تكريم لها على كل المستويات يؤكد للأجيال الحالية والقادمة أن كل فن صادق ونظيف وبذل فيه كل الجهد وليس بعضا من الجهد سيعيش ويحيى في القلوب ويظل خالدا عبر السنين.