تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > سبوت : أمل جديد.. محو الذكريات المؤلمة أصبح ممكناً
source icon

سبوت

.

أمل جديد.. محو الذكريات المؤلمة أصبح ممكناً

كتب:مروة علاء الدين 

أثار مشهد "ديجافو" في مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو" جدلًا واسعًا، بعدما قدم سيناريو جريئًا يقوم على نقل ذكريات شخص متوفى إلى عقل آخر حي، ليتغير كيانه وهويته بالكامل، لم يكن الأمر مجرد حبكة درامية مشوقة، بل فتح بابا أمام أسئلة كبرى؛ هل يمكن أن يصل العلم فعلًا إلى زرع أو محو الذكريات كما نراها على الشاشة؟ أم أن هذه التصورات ستظل محصورة في نطاق الخيال العلمي؟ وما الأبعاد الأخلاقية التي تفرض نفسها بقوة إذا ما اقترب العلم من هذه الحدود؟

من وعود أفلام الخيال العلمي إلى مختبرات علم الأعصاب، يتردد سؤال قديم بملامح جديدة؛ هل يمكن حقًا محو ذاكرة إنسان؟ الإجابة إن الذاكرة ليست مجرد "شريط تسجيل" جامد، بل هي شبكة عصبية معقدة ترتبط بالعاطفة والحواس وتخضع لإعادة البناء مع مرور الزمن، هذا ما أثبتته أبحاث رائدة في جامعة MIT، حيث تمكن العلماء باستخدام تقنية الأوبتوجينيتكس (Optogenetics) -وهي تقنية تستخدم الضوء للتحكم في الخلايا العصبية- من زرع ذكرى زائفة لدى الفئران عبر تحفيز خلاياها العصبية بالضوء، المدهش أن الفئران تصرفت وكأنها مرت بتجربة لم تحدث أصلًا.

وبالرغم من أن مثل هذه التجارب تعتمد على تقنيات بالغة التعقيد، فإن العقل البشري نفسه عرضة لتكوين ذكريات زائفة بوسائل أبسط بكثير، مثل التكرار أو الإيحاء، فيما يعرف بظاهرة الذاكرة الكاذبة، وأشارت دراسة أجرتها جامعة وارويك البريطانية، إلى أن ما يقرب من 30% من المشاركين استطاع الباحثون إقناعهم بتذكر أحداث لم يمروا بها أصلا،  وفي تجارب أخرى متخصصة في تأثير المعلومات المضللة، ظهر أن الأخبار الكاذبة يمكن أن تعمل كأداة قوية لزرع ذكريات وهمية، حيث تكوّن نحو 40% من الأفراد ذكرى زائفة واحدة على الأقل بعد تعرضهم لمحتوى مضلل.


إمكانية التطبيق
يؤكد الدكتور محمد عبد الرحمن، استشاري طب المخ والأعصاب، أن ما يُعرض في الأعمال الدرامية قد يستند إلى قدر محدود من الأساس العلمي، لكنه لا يرقى إلى إمكانية التطبيق الواقعي على البشر في الوقت الراهن، فالعلم بحسب قوله، قادر على تقليل حدة الذكريات المؤلمة أو إعادة تشكيل بعض تفاصيلها، لكنه عاجز عن محوها كليا أو زرع هوية جديدة.

ويضيف أن الأبحاث حتى اليوم لم تقدم دليلًا علميًا موثوقًا يثبت إمكانية محو ذكرى بشرية بعينها بشكل كامل وانتقائي، بينما تشير النتائج المتاحة إلى أن أقصى ما يمكن تحقيقه هو تعديل تأثير الذكرى والتخفيف من شدتها الانفعالية، لا استئصالها نهائيا.

أبعاد أخلاقية
التحدي الأكبر لا يقف عند حدود التقنية فقط، بل يتجاوزها إلى الأبعاد الأخلاقية والإنسانية، فالتلاعب بالذاكرة يعني التدخل في صميم الهوية البشرية.

ويؤكد د. عبد الرحمن، أن أي محاولة لمحو أو زرع الذكريات تفتح أبوابا خطيرة، ليس فقط على الفرد، بل على المجتمع ككل، فالذاكرة هي وعاء التاريخ الشخصي والجماعي، وإذا تحولت إلى أداة قابلة للتعديل، قد تُستغل سياسيا لتزوير التاريخ، أو تجاريًا لبيع ذكريات مصطنعة، لذلك تضع المبادئ الأخلاقية الدولية والقوانين قيوداً صارمة على أي بحث يهدد هوية الإنسان أو استقلاله النفسي.

الهوية المهددة
وفي سياق متصل، تذهب الدكتورة نادية مصطفى، أستاذة الفلسفة بجامعة القاهرة، إلى أبعد من ذلك معتبرة أن التلاعب بالذاكرة هو "اعتداء على الهوية الشخصية في صميمها"، وتوضح، أن الذاكرة ليست أرشيفاً منفصلاً عنّا، بل هي النسيج الذي يحيك قصة حياتنا، نحن لا نملك ذكرياتنا، نحن إلى حد كبير مكونون منها، فمحو ذكرى مؤلمة، رغم إغراءاته العلاجية، قد يعني محو الدرس الذي تعلمناه، والقوة التي اكتسبناها من تجاوز المحنة، وبالتالي تشويه مسار نمونا الإنساني، وتضيف، السؤال الأخلاقي الأصعب ليس 'هل يمكننا أن نفعل هذا؟'، بل 'هل ينبغي لنا ذلك؟'. 

فالمجتمع الذي يسمح بمحو الذكريات المؤلمة قد يخلق بشراً 'مثاليين سطحياً' لكنهم مجوفون من الداخل، منفصلون عن تاريخهم الشخصي والمشترك، إنه يفتح الباب لأشكال جديدة من الهيمنة حيث تتحكم أنظمة ليس فقط في حاضر الأفراد ومستقبلهم، بل وفي ماضيهم أيضا.

محاولات علاجية
مع ذلك، لم يتوقف العلم عند حدود الخيال، بل حاول استثمار هذه المعرفة في خدمة علاج الاضطرابات النفسية، فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن التدخلات المعتمدة على نظرية إعادة التثبيت (Reconsolidation) -وهي العملية التي تصبح فيها الذاكرة قابلة للتعديل عند استرجاعها- في علاج اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) تحقق نتائج ملموسة.

ولقد وصل العلماء إلى أن تقنيات التدخل أثناء استرجاع الذكريات أكثر فعالية بمرتين من العلاجات النفسية التقليدية في علاج اضطراب ما بعد الصدمة، وفقا لتحليل شمل عشرات الدراسات السريرية.

ويشرح الدكتور أندرو هولمز، الباحث في المعهد الوطني للصحة العقلية بالولايات المتحدة (NIMH)، أن عملية استرجاع الذكريات تجعلها مؤقتًا أكثر هشاشة وقابلة للتعديل، مما يتيح للعلاج النفسي التدخل بفعالية أكبر، ومن بين التقنيات المستخدمة:
-استخدام عقارات لتقليل الأثر الانفعالي للذكريات الصادمة.
-أسلوب الانقراض (Extinction) الذي يقوم على تغطية الذكرى المؤلمة بذكريات جديدة أكثر أماناً.
-التدخل أثناء مرحلة النوم العميق، عندما تكون الذكريات أكثر هشاشة وقابلية للتعديل.

ويضيف، الذكريات لا تُخزن في مكان واحد داخل الدماغ، بل تتوزع عبر شبكات عصبية معقدة، مما يجعل من الصعب حذف ذكرى محددة دون التأثير على غيرها، لكن يمكن التحكم في المشاعر المرتبطة بها، وهو ما فتح المجال لعلاجات حديثة مثل التحفيز المغناطيسي للدماغ، أو علاج إزالة حساسية حركة العين، وحتى استخدام جرعات دقيقة من بعض العقاقير لمساعدة مرضى اضطراب ما بعد الصدمة.

ووفقاً لدراسة مصرية حديثة منشورة في إحدى الدوريات المتخصصة في علم النفس عام 2023، تناولت العلاقة بين اضطراب ما بعد الصدمة وكلٍّ من الاكتئاب والقلق والشعور بالوحدة لدى طلاب الجامعات، توصل الباحثون إلى: 
-وجود ارتباط وثيق بين شدة الصدمة ومستوى الأعراض النفسية السلبية.
 -كلما زادت حدة الصدمات، ارتفعت معدلات القلق والاكتئاب والشعور بالعزلة بشكل ملحوظ.
-مما يؤكد أن الذكريات الصادمة لا تبقى مجرد صور ذهنية، بل تمتد لتؤثر بعمق على الصحة النفسية والسلوك.
-وتبرز الدراسة أهمية تطوير برامج علاجية قائمة على تقنيات تعديل الذاكرة كإحدى الوسائل المساندة في تخفيف آثار الصدمات النفسية داخل السياق المحلي.

واقع محلى
لا يقتصر الاهتمام بهذا المجال على الغرب فقط، بل يمتد إلى العالم العربي أيضًا، حيث يؤكد الدكتور أحمد فوزي، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، أن هذه الأبحاث لا تقتصر على الجانب الأكاديمي فقط، بل يمكن أن تكون لها تطبيقات عملية في مصر والعالم العربي، حيث يتعرض الكثيرون لصدمات ناتجة عن الحوادث أو الكوارث أو حتى العنف المجتمعي، التعامل مع الذكريات المؤلمة عبر تقنيات مثل إعادة التثبيت أو الانقراض قد يساعد على تحسين حياة المرضى وتقليل الاعتماد على الأدوية لفترات طويلة.

ويحذر د. فوزي من البعد القانوني لهذه الأبحاث، موضحًا أن هشاشة الذاكرة وقابليتها للتشكيل قد تؤدي إلى شهادات غير دقيقة أمام المحاكم، وهو ما يتطلب دمج هذه النتائج العلمية في التدريب القضائي والجنائي لضمان العدالة وعدم استغلال الثغرات.

بين الخيال والواقع
استثمرت السينما العالمية هذه الفكرة بذكاء في عدة أعمال بارزة، مثل فيلم Inception الذي ناقش زراعة الأفكار في العقل البشري، وفيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind الذي تخيل إمكانية محو الذكريات المؤلمة بالكامل. لكن الواقع العلمي ما زال بعيدا جدا عن هذه السيناريوهات.

اليوم، أقصى ما يمكن للعلم فعله هو تخفيف الأثر الانفعالي للذكريات أو إعادة صياغتها في سياق أقل إيلاما، بينما يبقى محوها بالكامل أو نقلها بين الأشخاص مجرد خيال علمي.
 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية