تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
رغم سيطرة المعايدات عبر التكنولوجيا، وغزو رسائل التهنئة الإلكترونية، وانتشار "العيديات الرقمية"، فإن طقوس العيد في قرى مصر، تظل عصية على الاندثار، تأبى أن تموت، راسخة كجذور الأشجار، تورثها الأجيال، وتمارسها بمحبة واعتزاز.. فلا يُقاس العيد بعدد الرسائل أو صور الملابس الجديدة، بل بتأثير لمة العائلة، وصوت الفرحة التي تملأ البيوت قبل الشوارع.
ورغم تطور الحياة وتسارع الإيقاع في المدن، لا يزال الريف المصري يحتفظ بطابع خاص في استقبال عيد الأضحى المبارك، حيث تمتزج العقيدة بالتقاليد، والدين بالمحبة، ويسود الكرم الريفي، مما يعكس عمق الروابط الاجتماعية رغم تغير الزمن.
ورغم تطور الحياة وتسارع الإيقاع في المدن، لا يزال الريف المصري يحتفظ بطابع خاص في استقبال عيد الأضحى المبارك، حيث تمتزج العقيدة بالتقاليد، والدين بالمحبة، ويسود الكرم الريفي، مما يعكس عمق الروابط الاجتماعية رغم تغير الزمن.
طقوس مزدوجة
مع آذان الفجر، وبزوغ أول خيط للنهار، يبدأ أهالي القرى الاستعداد لصلاة العيد، كما يروي الحاج بدر محمود، والذي عاش 6 عقود في إحدى قرى محافظة الغربية، حيث يستيقظ الأطفال بلهفة تملؤها الحيوية والنشاط، ليرتدوا ملابسهم الجديدة، ويتسابقون مع كبراءهم نحو المساجد والساحات المفتوحة، لأداء صلاتي الفجر والعيد، حيث تفرش الحصر، والمفارش البسيطة، وتعلق الزينة، وقبل ذلك بنحو ساعة، تنطلق التكبيرات عبر الميكروفونات، معلنة حلول العيد، فيرددها الكبار ويتحمس لها الصغار، ويتسابقون لتقليد المؤذن بأصوات عزبة، معلنين عن طقس سنوي يمتزج فيه صوت الكبار والصغار معا، لتذوق فرحة العيد.
طريقان للفرحة
ما إن تنتهي الصلاة وتختتم خطبة العيد، حتى تتجه خطى المصلين إلى طريقين، فمنهم من يسارع إلى ذبح الأضحية وفقاً للسنة وإعمالاً بقول الله تعالى "فصلي لربك وانحر"، وآخرون يتجهون إلى المقابر، حاملين الريحان، وزجاجة الماء وزهرة أو دعاء، فزيارة القبور في صباح العيد، وإن لم تكن من الشعائر الفقهية الملزمة، فإنها عند كثير من المصريين شعيرة وجدانية، لا تكتمل الفرحة بدونها.
أمهات على أبواب الرحمة
قبل العيد بساعات، وربما من مساء الوقفة، تفضل بعض النساء زيارة القبور، حتى لا يتخلل يوم العيد حزن ظاهر، حسب ما تؤكده سيدة علي، أربعينية تعيش في قرية ريفية، وهذا الطقس تمارسه الجدات والأمهات بصمت ووقار، ويحمل في طياته إيمان عميق بأن العيد لا يُهدى فقط للأحياء، بل تُهدى روحه أيضا للراحلين، وفي عيونهن دمعة رقيقة لا تناقض الفرحة، بل تعمق معناها، وبأن زيارة القبور في العيد ليست نقيضا للبهجة، بل جزءا من التوازن الإنساني.
الأضحية عمل جماعي
بعد انتهاء صلاة عيد الأضحى، تبدأ استعدادات الذبح، وغالبًا ما تكون جماعية، قد تشترك عدة أسر في أضحية واحدة، ويتولى الذبح جزار القرية أو أحد كبار السن، أو من يجيدون ذلك من الأهل، وسط التكبيرات ومساعدة الأطفال والشباب، أو تجتمع أسر العائلة الواحدة ليتشاركوا فرحة كل أضحية على التوالي.
وتقسم اللحوم طبقًا للسنة النبوية، ثلث يوزع على الفقراء، وثلث للأقارب، والأخير لبيت القائم على الأضحية، ولكن في الريف، يتجاوز التوزيع مجرد الفريضة، ليصبح عرف اجتماعي راسخ يعيد توزيع البركة في البيوت، ليشعر كل فرد أن له نصيبا من فرحة العيد، حتى لو لم يذبح.
الفتة تتربع على العرش
يكتمل يوم العيد، بمائدة تفوح منها رائحة الخل والثوم، حسب وصف أمينة محمد، ربة منزل، حيث تتربّع الفتّة على عرش الأطباق، تتزين بالصلصة الممزوجة ب "دقة الثوم" ومعها اللحم المسلوق، وتعلو مع المائدة ضحكات الأطفال من الفرحة، كل منهم يختار قطعة اللحم المفضلة لديه، إلى جانب صواني الرقاق باللحم، وفواكه اللحوم.
الفطير المشلتت
وفي بعض القرى وخاصة الصعيد، يعد "الفطير المشلتت" ومعه العسل الأسود أو الجبن القديم "الحادق" واجبًا في الضيافة، إلى جانب الشاي الثقيل المحلى، مشروبًا رسمياً للضيافة، ويعرف أول أيام العيد بـ"اليوم المفتوح"، حيث لا تغلق أبواب البيوت في وجه أحد، والجميع مرحب به بلا دعوة مسبقة.
العزوة وبيت العيلة
من الطقوس التي لا تتغير في القرى، ما يعرف بـ "العَزوة"، التي عبر عنها أشرف إبراهيم، مدرس، وهي جولة صباحية منظمة تبدأ من "بيت العائلة الكبير" حيث يتجمع أبناء العم، ثم ينطلقون معاً في زيارات لبقية أقاربهم داخل القرية، وكذلك لبيوت كبار ودور مناسبات العائلات الأخرى.
وهي ليست مجرد زيارة، بل صلة رحم وطقس ضروري لاكتمال الفرحة، في مشهد يعيد نسج الروابط العائلية، وبهجة الأطفال والسيدات بالعيديات، وتتبادل الصلات الطيبة المتوارثة بين الأجيال.
أزياء العيد
تكتمل سعادة الأطفال، بملابس العيد الجديدة، التي تعتبر واحدة من أجمل علاماته، فقبل قدومه بأسابيع، تبدأ الأمهات والآباء رحلة البحث عن أجمل الثياب، حيث يجوبون المحال مع أولادهم لاختيار أحدث الأزياء، وأبهى الألوان، حتى وإن كانت الإمكانيات محدودة، ويتحسس الصغار القماش كأنهم يلمسون العيد نفسه، ويتخيلون لحظة الظهور أمام الأقران في أبهى هيئة.
وفي صباح يوم الضيف الجميل، يستيقظ الصغار قبل الجميع، وكأنهم على موعد مع السعادة، يتسابقون لارتداء ملابسهم الجديدة، وتصفف الأمهات شعور بناتهن، مزينة إياها بأحدث القصات والاكسسوارات، ويضعن لمسات العطر على ثياب أولادهن، ليرتدوا جميعًا أحذية جديدة لامعة، قبل بدء طقوس الاستعراض أمام الجيران والأقارب، وفي الشوارع، ليشبه العيد مهرجاناً صغيراً، يسعد فيه الكبار والصغار
تقاليد بروح العصر
رغم كل التغيرات التي فرضتها التكنولوجيا، حسب الدكتورة أمل مغازي، خبير علم الاجتماع، سواء تهاني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو العيديات الفورية، إلا أن الواقع الريفي يثبت كل عام أن العيد الحقيقي لا يأتي عبر الشاشات، ولكن عبر ابتسامات الشفاه، وبريق العيون، والشوارع والطرقات المزدحمة بالخطى المتسارعة نحو الأحبة.
وتؤكد د. أمل، خبير علم الاجتماع، أن عادات القرى هي التي تحافظ على مثل هذه الطقوس، ففي الوقت الذي تتآكل فيه العلاقات بالمدن، فإنها تزداد تماسكاً في الريف بفعل العادات المتوارثة، خاصة في المناسبات الدينية والاجتماعية.
العيد بلون النوبة
في قرى النوبة جنوب مصر، تحوز الطقوس طابعًا فنيًا خاصاً، فبعد صلاة العيد، تبدأ التجمعات في الساحات، وتقام حلقات الذكر والغناء النوبي، مع دقات الدفوف، وتوزع الأضاحي بشكل جماعي، وتكتمل فرحة العيد بجلسة "الجبنة" الشهيرة، وهي قهوة تجهز في قدر تقليدي خاص، وتقدّم للضيوف وسط نغمات الطبول والأغاني الشعبية.
ذاكرة لا تموت
يظهر العيد في قرى مصر كأنه مشهد حي من الذاكرة الجماعية، تتعدد تفاصيله من مكان لآخر، لكن تظل روحه واحدة، وفرحة توزع على الجميع عبر الأجيال.
وفي زمن سريع التغيرات، تبقى هذه الطقوس حائط صدّ أمام النسيان، وعنوان حي يسطر معاني عميقة، مفادها أن في هذه الدنيا، لا يزال للعيد "طعم البيت"، ولصلة الرحم وجه إنساني لا يُنسى.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية