تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
منذ آلاف السنين، لم يكن البخور في مصر مجرد رائحة عطرة تتصاعد في المكان، بل كان طقساً روحياً، ووسيلة تطهير، وسلاحاً شعبياً ضد العين والحسد، عبر العصور تسرب دخانه الأبيض في المعابد، والكنائس، والمساجد، والمنازل، وبقي رغم تبدل الأزمنة شاهداً على ثقافة ممتدة تعبر عن الإيمان بالجمال، والنقاء، والروح.
في هذا التقرير، نغوص في رحلة البخور، من المعابد الفرعونية إلى مآذن القاهرة، ومن طقوس الزار إلى صلوات الكنائس، لنكشف سر تعلق الناس بدخان يبدو بسيطاً، لكنه يحكي قصص آلاف السنين.
البخور قبل العطور
تقول الكاتبة والباحثة في التاريخ الثقافي شذى يحيى، قبل أن يعرف الإنسان الزيوت العطرية، اكتشف سحر الأخشاب المحروقة التي تطلق روائح تريح الأعصاب وتهدئ النفس، آمن بأن دخان البخور له قدرة سحرية على رفع الدعوات للسماء وطرد الشرور، وتعددت أنواع البخور باختلاف مصادرها، منها الحيواني كالمسك والعنبر، ومنها النباتي كالعود والصندل، ومنها الصمغي كالبان، ومنها المتحجر مثل الجاوي، وامتزجت هذه المواد بغيرها مثل "الشبة" و"الفاسوخة" و"عين العفريت" و"الملح" لتشكل درعاً روحانياً في البيوت والمحال.
طقس فرعوني مقدس
وتتابع شذى، عرف المصريون القدماء البخور منذ عصر ما قبل الأسرات، حيث وجدت بقايا راتنجات عطرية في مقابر حضارتي نقادة والبداري، ومنذ الأسرة الخامسة، أصبح البخور جزءاً من الطقوس اليومية في المعابد، حيث كان يبخر ثلاث مرات في اليوم، باستخدام خلطات معقدة من الصندل والقرفة والمسك والزعفران، فيما عرفه اليونانيون لاحقا باسم "كيفي".
وأوضحت الباحثة أن البخور كان جزءاً من كل مناحي الحياة في مصر القديمة مثل الطقوس الدينية، الجنازات، الاحتفالات، وكان يوضع مع المومياء لمساعدة الروح على الصعود إلى السماء. حتى أن صناعته كانت حكراً على الكهنة، وأُبدع في صناعة المباخر من الحجر والمعادن والعاج على أشكال فنية مبهرة.
الأسرار المقدسة
وتشير شذى، إلى أن البخور يحتل مكانة روحية مميزة في الطقوس القبطية، إذ يعتبر أحد الهدايا الثلاثة التي قدمها المجوس للسيد المسيح، لذا، فهو حاضر في جميع الصلوات والأسرار، كذلك في المناسبات الكبرى مثل الميلاد والقيامة؛ حيث يعتقد أن رائحته تريح الملائكة.
أجواء روحانية
أما في العصر الإسلامي، استخدم البخور كرمز للنظافة والطهارة والتطيب، وكان رفيق الصوفية في جلسات الذكر والحضرة، كما انتشر استخدامه في المناسبات الدينية، وكان يُحرق في مآذن كبيرة مثل مئذنة مسجد الحاكم بأمر الله، التي كانت تعطر أجواء القاهرة في رمضان، ومئذنة الملك الصالح الأيوبي بشارع المعز.
صناعة وفن
كما تفنن الحرفيون في العصرين الفاطمي والمملوكي في تشكيل المباخر من النحاس المطعّم بالذهب والفضة والصدف، صممت على هيئة طيور وكائنات خرافية، وزينت بنقوش وزخارف دقيقة، وجابت بها الأسواق أيادي "المبخراتية"، ناشرين روائح الطيب والبركة، ولم يكن البخور حكراً على الطقوس الدينية فقط، بل استخدمه الحكام والقادة كجزء من طقوسهم قبل الحروب والاحتفالات.
من الزار إلى المبخراتي
وتتابع يحيى، واستخدم البخور في العديد من الطقوس التراثية وفلكلورية مثل الزار لطرد الأرواح، وفتح المندل، وطقوس الحماية، و"رش المحلات"، وهو ما يعرف بـ "استفتاحة الرزق"، وكان "المبخراتي" يحمل المبخرة على رأسه، ويدخل البيوت يردد الأدعية: "بخروا السلالم من عين أم سالم، وبخروا اللحاف من عين أم خلاف"، وهي عبارات لا تزال تتردد حتى اليوم.
الهندي وسهولة الاشتعال
يقول أحمد مختار، صاحب محل عطارة، رغم دخول البخور المصنع حديثاً من الهند والشرق الأقصى، والذي يشتعل بلا فحم ويتميز بسهولة الاستخدام، إلا أن الكثيرين ما زالوا يفضلون البخور التقليدي الذي "يطقطق" على الفحم، لأنهم يؤمنون بقدرته على طرد الشرور، ويعتبرونه الأقدر على تطهير المكان وجلب البركة، وأوضح أن البخور الهندي الحديث بأنواعه وأساليبه السريعة لم ولن يحل محل البخور التقليدي؛ فلاتزال رائحة الصندل والمسك والجاوي والفاسوخة رمزاً للبركة في المعتقدات الشعبية.
ويتابع" البخور في مصر ليس مجرد عطر، بل هو جزء من الهوية، ذاكرة شعب تعلق بالدخان العابر لأنه يحمل معه الإيمان، والحب، والحماية".
عبق طيب
عن رأي الدين الإسلامي في البخور، يقول الشيخ محمد عاصم، أمام أحد المساجد، إن البخور من الأمور الطيبة التي لم ينه عنها الإسلام، ويؤكد أن تبخير المساجد من السنن المستحبة، مستدلًا بما رواه الإمام أحمد والطبراني عن النبي ﷺ:
"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، طيبوها" (حديث حسن بشواهده).
كما يستحب تبخير البيوت في المناسبات كيوم الجمعة أو استقبال الضيوف، لكن دون اعتقاد سنيته الراتبة.
ويحذر الشيخ من بعض الاعتقادات الشعبية الخاطئة، فيقول: "البخور ليس وسيلة لطرد الجن أو إبطال الحسد، ولا توجد أدلة شرعية على ذلك، وما يشاع عن استخدامه لفك السحر أو طرد الأرواح فهو من الاعتقادات الدخيلة على الإسلام."
ويشدد على أن التحصين الشرعي يكون بالقرآن والأذكار، فلا ينبغي نسب خصائص روحانية للبخور لم ترد في النصوص، ولا المبالغة في تقديسه، فالإيمان الصادق هو أساس حماية القلب، لا مجرد الأدخنة.
ويختم بالتأكيد على أن البخور من الأمور المباحة المحمودة إذا استُخدم للتطيب والتنظيف، دون غلوٍّ أو اعتقادات باطلة.
طاقة البخور
في مجالات العلاج بالطاقة مثل "الريكي" و"الفينج شوي"-الذي يهتم بتحقيق التوازن بين الإنسان والمكان المحيط به- يعد البخور أداة محورية يعتمد عليها لتنقية الهالة المحيطة بالجسم، واستعادة الانسجام بين الجسد والعقل والروح، وتستخدم أنواع معينة من البخور لطرد الطاقات السلبية وخلق أجواء من السكينة والطمأنينة.
هذا ما أوضحته الدكتورة شيماء منصور، المعالجة بالطاقة الحيوية، حيث أكدت أن البخور الطبيعي له تأثير مباشر على الطاقات الدقيقة المحيطة بنا فمثلاً، عند استخدام المستكة أو اللبان، نسهم في تطهير المكان من الذبذبات السلبية التي تؤثر سلبًا على المزاج والحالة النفسية، كما أن وجود بخور مناسب يساعد في إشاعة أجواء من الراحة تنعكس على الأفراد المتواجدين في المكان.
وأضافت أن لكل نوع من أنواع البخور وظيفة طاقية خاصة:
المستكة: لتنقية الهالة الطاقية المحيطة بالجسم.
الميرمية: لطرد الطاقات السلبية القوية.
اللافندر: لتهدئة المشاعر وإعادة التوازن العاطفي.
العود: لرفع الطاقة الروحية وتعزيز التأمل.
وقدمت د.شيماء نصائح عملية للاستفادة من البخور في تعزيز الطاقة الإيجابية داخل المنازل:
في المساء: ينصح بتمرير بخور المستكة في أركان الغرفة بحركات دائرية مع التركيز على نية صفاء الذهن والتخلص من التوتر.
في الصباح: يُفضل استخدام اللافندر أو اللبان مع تهوية المكان جيدًا، واستحضار نية بدء يوم جديد بهدوء ونشاط.
كما تطرقت إلى فوائد البخور المختلفة، التي تتجاوز البعد الطاقي إلى التأثيرات النفسية والبيئية، ومنها:
1. تنقية الهواء: يعمل البخور مثل المستكة واللبان والعود على تنقية الهواء من الميكروبات، مما يحسن من جودة التنفس والصحة العامة.
2. التهدئة النفسية: تسهم الروائح الطبيعية في تقليل التوتر والقلق، وتعزز الاسترخاء، خاصة بعد أيام مرهقة.
3. تحفيز التركيز: يساعد اللافندر والميرمية على تنشيط الذهن وزيادة التركيز، لذلك يوصى باستخدامها أثناء العمل أو الدراسة.
4. إضفاء رائحة عطرة: تمتاز المستكة بعطرها المميز والدافئ الذي يضفي راحة وطمأنينة في المكان.
5. الاستخدامات الروحية: لطالما كان البخور جزءًا من الطقوس الدينية وجلسات التأمل في الثقافات القديمة، لدوره في طرد الطاقات السلبية وتوفير أجواء روحانية متزنة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية