تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
تحكي أسطورة الصراع بين حورس وست في الحضارة المصرية القديمة، أنه في إحدى المرات وجد ست حورس نائمًا، ففقأ عينه اليسرى، فحزنت أمه إيزيس وطلبت العون من الإله تحوت إله الحكمة، والذي كلف الإله حاتحور بمعالجة عين حورس. وحسب الأسطورة، ملأ حاتحور تجويف عين حورس بلبن الغزال، فاستعاد عينه مرة أخرى واستأنف معركته مع ست، لينتقم لمقتل والده أوزوريس ويستعيد عرشه...وبذلك أصبحت تميمة عين حورس رمزًا للشفاء وطرد المرض، سواء كان بسبب عضوي أو روحاني، وأصبح أطباء العيون في مصر القديمة يعملون تحت راية الإله تحوت، استنادًا إلى الأسطورة بأنه عالج عين حورس، فعرفوا الحدقة وأطلقوا عليها اسم (الفتاة التي بداخل العين)، واعتبروها مصدرًا للدموع، أما الجفن فسموه (ظهر العين). ووردت هذه القصة في كتاب “الأساطير المصرية” للكاتب الأمريكي دون ناردو...
عند الحديث عن علوم وأساطير حضارتنا المصرية، تتجلى في الأذهان حكايات لا تنتهي، وفي التوقيت الذي يتحضر فيه المتحف المصري الكبير ليكون الوجهة الأولى لكل من يهتم بالتراث المصري القديم كأكبر متحف في العالم، تحتم علينا أن نستعرض مشاهد من هذا الإرث العظيم الذي ظل عنوانًا للعبقرية المصرية، حيث يقف التاريخ والعلم والأسطورة في نقطة تماس لا تُرى سوى في حضارتنا الفرعونية. فلا يزال المصريون القدماء يبوحون لنا بأسرارها التي تبهر العالم وتعجز أحدث التقنيات عن مواكبتها، بدءًا من الطب ومخطوطاته وبردياته، وعلم التشريح، وعلم الفلك والأجرام السماوية، والرياضيات والهندسة المعمارية، والكيمياء، والفيزياء، وعلوم أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها. أما الأساطير – كأسطورة حورس وست – فاعتبروها كالعلم أمرًا لا شك فيه، وقد وصل عدد المعبودات إلى أكثر من 1500، بحسب موسوعة “تاريخ مصر”.
أقدم نظام طبي في العالم
“إذا قمت بفحص مريض يعاني من جرح في فخذه، ووجدت تورمًا واحمرارًا حول الجرح، يجب عليك أن تضمده بلحم طازج في اليوم الأول، ويكرر العلاج حتى يقل التورم، وبعد ذلك يعالج بالشحم والعسل بضمادة موضعية يوميًا حتى يتم الشفاء” من بردية “إدوين سميث” أهم البرديات الفرعونية الجراحية.
من بين أكثر جوانب العلوم المصرية القديمة جاذبية، نهج المصريين القدماء في الطب. وبرغم أن الحديث يكثر دائمًا عن تفوقهم في الهندسة المعمارية الضخمة وأسرارها، إلا أن مساهماتهم في مجال الطب تحظى بنفس القدر.
فالطب المصري يُعد أقدم الأنظمة الطبية في العالم، وكتوثيق للنبوغ العظيم الذي أظهره المصريون في الطب جاءت البرديات الطبية خير دليل وشاهد على ذلك.
وتعد أيضًا بردية “إبريس”، التي تعود إلى أكثر من 4000 عام، أحد أهم الوثائق الطبية من مصر القديمة، فهي تحتوي على أكثر من 700 وصفة وتعويذة تهدف إلى علاج مجموعة متنوعة من الأمراض، من الإصابات الجسدية إلى الآفات الروحية.
كان الأطباء، أو “سوني” باللغة المصرية القديمة، يحظون بمكانة مرموقة في المجتمع، ليس فقط لدورهم المهم ودراستهم لمجموعة واسعة من الموضوعات كعلم التشريح والصيدلة واللاهوت، بل كانوا أيضًا يعتبرون وسطاء بين الآلهة والمرضى.
وبالطبع كان التخصص موجودًا، فكان منهم أطباء العيون كما ذكرنا آنفًا، وأطباء الأسنان، وأطباء الجهاز الهضمي، وحتى أطباء أمراض المستقيم. يشير هذا المستوى من التخصص إلى فهمهم المتطور للجسم البشري، والمدهش أن الإجراءات الجراحية كانت تسير بشكل دقيق جدًا، وهذا ما نراه في المومياوات ذات الكسور الملتئمة والثقب في الجمجمة (دلالة على جراحة الجمجمة). كما أن الجراحين القدماء كانوا ماهرين في تجبير العظام وإجراء البتر، وهذا ما نراه في الأدوات الجراحية في مقابرهم مثل المشرط والملاقط وأدوات الكي. أما الأغرب من ذلك، فأنه كان هناك أطباء بيطريون متخصصون في علاج الحيوانات.
فلا عجب إذن أن يمتد تأثير الطب المصري القديم إلى ما وراء وادي النيل، فقد درس العلماء اليونانيون، ومنهم أبقراط وغالينوس، النصوص الطبية المصرية ودمجوها بمعارفهم في ممارساتهم، وكانت هذه البداية التي مهدت لاحقًا للطب في الغرب.
أسرار التحنيط وأسطورة البعث
اعتقد المصريون أن الموت مجرد محطة عبور إلى الخلود والحياة الأبدية، ولضمان الوصول إليها لا بد من الحفاظ على الجسد قدر الإمكان حسب اعتقادهم آنذاك، وبالطبع استخدموا أحدث تقنياتهم لبلوغ هذه الغاية.
كان يقوم بالتحنيط مجموعة من العمال كما ذكر هيرودوت في كتابه “هيرودوت يتحدث عن مصر”. رجل يحدد فتحة التحنيط أي مكان إخراج الأحشاء الداخلية ويسمى “الكاتب”، أما الرجل الذي يقوم بفتحها فيسمى “الجراح”، أما صاحب الدور الرئيسي فهو المنفذ الذي يرتدي قناع الإله “أنوبيس”، وهناك الكهنة المساعدون.
من خلال فتحة صغيرة، يصل طولها إلى بضعة سنتيمترات فقط في الجانب الأيسر من البطن، تمكن المحنط المصري القديم من الوصول واستخراج كافة أعضاء الجسد الآدمي، أما المخ فكان يتم نزعه من خلال فتحة الأنف، لتبدأ عملية التحنيط. وكانت المواد المستخدمة تبدأ بالماء كمادة للتطهير، وكان الهدف منها إعادة الجسد إلى لحظة الميلاد بنقائها وطهرها، بعدها يتم استخدام مادة النطرون، وهو ملح طبيعي من كربونات الصوديوم، كان يستخدم في عملية التجفيف التي كانت تستمر 40 يومًا، ثم تتم معالجة البشرة الخارجية بتغطيتها بالكامل بزيوت طبيعية، الأرجح أنها كانت مزيجًا من زيوت نباتية وشحوم حيوانية، ومراهم صنعوها خصيصًا لغرض التحنيط، بعدها يتم تقميط الجسد بالكامل بطبقات متعددة من الكتان والقماش المبلل بمزيج من الزيوت، ثم يوضع في تابوت.
ومن أغرب ما يحدث في عملية التحنيط أن القلب كان يُوضع داخل الجسد بعد معالجته بالعقاقير، باعتباره له دورًا في العالم الآخر، إذ اعتبروه العضو المسؤول عن نيات وأعمال المتوفى. فعند بدء المحاكمة (كما تروي أسطورة كتاب الموتى) يقف الإله أنوبيس بالقرب من الميت لإجراء عملية وزن قلبه، فيضع القلب على كفة الميزان ويضع ريشة الحق أو “ماعت” على الكفة الأخرى. فإذا كان القلب أخف من ريشة الحق جاز للميت أن يدخل عالم الخلود إلى جانب الآلهة، أما إذا كان القلب أثقل من الريشة، يُلقى صاحبه إلى “عمعموت” ليلتهمه، وهو وحش له رأس أسد وجسم فرس النهر وذيل تمساح.
لذلك كانت عملية التحنيط تتم بدقة شديدة كتهيئة لهذه المحاكمة الكبرى، فكانت تستغرق قرابة العشرة أسابيع في إطار طقوس دينية وشعائرية، وذلك بحسب كتاب “100 حقيقة مثيرة في حياة الفراعنة” لعالم المصريات الدكتور زاهي حواس.
وبالطبع فإن عبقرية المصري القديم في التحنيط اعتمدت على تقدمه في علم الطب والتشريح ورصد الأمراض، مما مكنه من اختيار طرق حفظ الجسد بعد الوفاة. لكن يظل اللغز في نسب المواد وطبيعة التركيبة المستخدمة في عملية التحنيط للحفاظ على الجسد، وهو الأمر الذي يتعلق بـ”سر الصنعة” لدى أجدادنا القدماء.
الهندسة المعمارية والبداية إمحوتب
قيل أيضًا إن المصريين كانوا يضعون الحجر على أوراق البردي السحرية، ويطرقون عليها فيندفع الحجر إلى مكانه بالهرم، وفي تكهناتهم زعموا أن الهرم كان مركز اليابسة للقارات الخمس، وإن هرم خوفو لم يُبنَ كمقبرة، بل كمرصد فلكي. ومن بناه هم بنّاءو كهنة آمون في الأسرة الثانية، وهناك ادعاء آخر يقول إن من بنى الأهرامات هم عمالقة قوم عاد، وروجوا في الآونة الأخيرة لادعاء جديد فقالوا إن من شيد الأهرامات هم كائنات فضائية! فما كانت كل هذه الشطحات المضحكة سوى تأكيد لعبقرية المصري القديم التي تُذهل العقول في البناء والهندسة المعمارية.
فليس هناك كعبقرية المهندس والطبيب إمحوتب (رسول السلام)، الذي اعتبر أول من وضع أسس الهندسة المعمارية في الحضارة المصرية القديمة، والبداية كانت بتشييده هرم “زوسر” المدرج، المكون من ست مصاطب، وكان مصنفًا كأطول مبنى في العالم، ويُعتبر أقدم هرم مصري معروف. كانت فكرة إمحوتب في البداية تتمثل في تشييد مقبرة مثل المصطبة المستطيلة كالمعتاد وقتها، لكن يبدو أنه تأثر بأفكار دينية جعلته يحولها إلى هرم مدرج، لكي يمثل صعودًا للملك نحو معبد الشمس وعالم السماء، وبفكرة إمحوتب أصبح الهرم هو الشكل المميز للعمارة المصرية القديمة.
واستمر المصريون القدماء في بناء أهرامات لمدة 500 عام، وأنشئت خلالها أهرامات الجيزة التي مثلت ذروة التقدم المعماري منذ بنائها وحتى الآن. وبذلك انتقلت الحضارة القديمة إلى عصر الهندسة المعمارية التي أصبحت تروي قصص المصريين وتُظهر علاقتهم القوية بأراضيهم وآلهتهم. واستمر تطور العمارة المصرية، فأنشئت المعابد والمدن والمسلات التي ألهمت العالم في تصميم الآثار والهياكل المهيبة.
أسطورة آمون رع وعجائب علم الفلك
أما علم الفلك عند المصريين القدماء، فلا مجال أمامنا سوى أن نبدأ بأسطورتهم الكبرى حول “الشمس” والإله “آمون رع”، الذي حاولوا الاقتران به بشتى الطرق وأكثرها غرائبية على الإطلاق.
“آمون رع الإله الذي يستيقظ من نومه فجرًا ليضيء العالم!”
اكتسب تلك المنزلة كونه إلهًا للشمس، فنحته المصريون القدماء على جدران معابدهم تخليدًا لفضله على العالم. وكما تخبرنا الأسطورة الفرعونية، “أنه في نهاية اليوم يموت، فيبدأ سفره إلى العالم السفلي تاركًا القمر يضيء الجزء العلوي. وما بين بداية اليوم ونهايته، يسافر عبر نهر النيل فلا تخلو رحلته من كرب! فيواجه “أبيب” الشيطان ليدمره أغلب الأحيان، ولكن في أيام العواصف والكسوف، يُكلل النصر تاجًا على رأس أبيب ويحل الظلام!”
وتتجلى أكبر المعجزات الفلكية المرتبطة بآمون رع إلى يومنا هذا في معبدي أبو سمبل، حيث تتسلل أشعة الشمس إلى الغرفة المقدسة لكي تتعامد على قدس أقداس معبد الملك رمسيس الثاني، في ظاهرة فريدة تتكرر مرتين كل عام، يومي 22 أكتوبر و22 فبراير، حيث يتزامن هذان اليومان مع يوم مولد الملك رمسيس الثاني ويوم تتويجه على العرش، لتشع بنورها على منصة عليها تمثاله جالسًا وبجواره تماثيل المعبودات رع حور آختي وآمون، وكذلك المعبود بتاح الذي لا تتعامد الشمس على وجهه حيث اعتبره المصري القديم معبود الظلام.
تتجسد فلسفة النور في مصر القديمة وتقديس قدماء المصريين للشمس أيضًا في تعامد أشعتها على الهرم الأكبر ظهيرة يوم السابع والعشرين من فبراير من كل عام، بل والأغرب من ذلك أن الواجهة الشمالية للهرم الأكبر تظل مظلمة 137 يومًا في العام، وتعود الشمس لتضيئها طوال 228 يومًا، وهو ما لا يدع مجالًا للمشككين في براعة المعماري المصري القديم وربطها الدقيق بالظواهر الفلكية التي اندمجت بالطقوس الدينية.
لم يكن غريبًا إذن أن يكون هناك كاهن خاص لمراقبة سير الشمس، وهو الكاهن رع الأكبر أو “الرائي العظيم”. كما كان في المعابد أيضًا جماعات كهنة لمراقبة سير النجوم وحركة الكواكب، وكانت لديهم معرفة تامة بمنازل القمر، ووضعوا الأشهر القمرية، والتقويم المكون من 365 يومًا، واليوم المكون من 24 ساعة. ورسموا خريطة كاملة للسماء الليلية ونجومها وكواكبها، وكان لديهم أبراجهم الخاصة. كما استطاعوا من خلال مراقبة الأجرام السماوية اكتشاف ظاهرة خسوف القمر وكسوف الشمس، وأيضًا ظاهرة الاقتران النجمي.
ولم تكن معرفة المصريين القدماء بعلوم الفلك مرتبطة فقط بأمور دينية وشعائرية، إنما وظفوها أيضًا في شؤونهم الحياتية، وأولها الزراعة. فبتطابق مع مواقع الشمس قسموا السنة إلى ثلاثة فصول، وهي: فصل الفيضان والمكون من أربعة أشهر (توت، بابه، هاتور، كيهك)، وفصل الزرع والإنبات والانبعاث (طوبة، أمشير، برمهات، برمودة)، ثم فصل الحصاد والجفاف (بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى). وكل شهر ثلاثون يومًا، وأضافوا خمسة أيام في نهاية السنة اعتبروها فترة عطلة وأعياد، وذلك لكي يتطابق حساب السنة مع فيضان النيل ومع مواقع الشمس.
وكان اليوم في نظرهم ينقسم إلى اثنتي عشرة ساعة نهارًا واثنتي عشرة ساعة ليلًا مهما كانت فصول السنة. وقد كانت تقاس أوقات اليوم بساعات على أنواع مختلفة، منها الساعات الشمسية أو “المزولة” وهي آلة تعرف ساعات النهار بوساطة الظل، وساعة مائية وهي إناء ذو حجم معين مقسم إلى أقسام، كل منها يفرغ في زمن محدد. أما خلال الليل، فكانت كذلك تُعرف الساعات بمراقبة النجوم ورصدها، لما لها من تأثير مباشر على شؤون حياتهم ومعتقداتهم.
هكذا استطاع المصريون القدماء تحقيق السبق في شتى العلوم، وكانت الأسطورة لديهم ذات بعد فلسفي وديني عميق. فهذا هو المصري القديم الذي أنجز وأبدع على مر العصور والأزمنة في العلم والفكر والتأمل، حتى انبهر به العالم واستحدث له علمًا وهو علم المصريات، مما يؤكد حقيقة واحدة باقية، وهي أن “مصر بلد صنعت التاريخ”
عند الحديث عن علوم وأساطير حضارتنا المصرية، تتجلى في الأذهان حكايات لا تنتهي، وفي التوقيت الذي يتحضر فيه المتحف المصري الكبير ليكون الوجهة الأولى لكل من يهتم بالتراث المصري القديم كأكبر متحف في العالم، تحتم علينا أن نستعرض مشاهد من هذا الإرث العظيم الذي ظل عنوانًا للعبقرية المصرية، حيث يقف التاريخ والعلم والأسطورة في نقطة تماس لا تُرى سوى في حضارتنا الفرعونية. فلا يزال المصريون القدماء يبوحون لنا بأسرارها التي تبهر العالم وتعجز أحدث التقنيات عن مواكبتها، بدءًا من الطب ومخطوطاته وبردياته، وعلم التشريح، وعلم الفلك والأجرام السماوية، والرياضيات والهندسة المعمارية، والكيمياء، والفيزياء، وعلوم أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها. أما الأساطير – كأسطورة حورس وست – فاعتبروها كالعلم أمرًا لا شك فيه، وقد وصل عدد المعبودات إلى أكثر من 1500، بحسب موسوعة “تاريخ مصر”.
أقدم نظام طبي في العالم
“إذا قمت بفحص مريض يعاني من جرح في فخذه، ووجدت تورمًا واحمرارًا حول الجرح، يجب عليك أن تضمده بلحم طازج في اليوم الأول، ويكرر العلاج حتى يقل التورم، وبعد ذلك يعالج بالشحم والعسل بضمادة موضعية يوميًا حتى يتم الشفاء” من بردية “إدوين سميث” أهم البرديات الفرعونية الجراحية.
من بين أكثر جوانب العلوم المصرية القديمة جاذبية، نهج المصريين القدماء في الطب. وبرغم أن الحديث يكثر دائمًا عن تفوقهم في الهندسة المعمارية الضخمة وأسرارها، إلا أن مساهماتهم في مجال الطب تحظى بنفس القدر.
فالطب المصري يُعد أقدم الأنظمة الطبية في العالم، وكتوثيق للنبوغ العظيم الذي أظهره المصريون في الطب جاءت البرديات الطبية خير دليل وشاهد على ذلك.
وتعد أيضًا بردية “إبريس”، التي تعود إلى أكثر من 4000 عام، أحد أهم الوثائق الطبية من مصر القديمة، فهي تحتوي على أكثر من 700 وصفة وتعويذة تهدف إلى علاج مجموعة متنوعة من الأمراض، من الإصابات الجسدية إلى الآفات الروحية.
كان الأطباء، أو “سوني” باللغة المصرية القديمة، يحظون بمكانة مرموقة في المجتمع، ليس فقط لدورهم المهم ودراستهم لمجموعة واسعة من الموضوعات كعلم التشريح والصيدلة واللاهوت، بل كانوا أيضًا يعتبرون وسطاء بين الآلهة والمرضى.
وبالطبع كان التخصص موجودًا، فكان منهم أطباء العيون كما ذكرنا آنفًا، وأطباء الأسنان، وأطباء الجهاز الهضمي، وحتى أطباء أمراض المستقيم. يشير هذا المستوى من التخصص إلى فهمهم المتطور للجسم البشري، والمدهش أن الإجراءات الجراحية كانت تسير بشكل دقيق جدًا، وهذا ما نراه في المومياوات ذات الكسور الملتئمة والثقب في الجمجمة (دلالة على جراحة الجمجمة). كما أن الجراحين القدماء كانوا ماهرين في تجبير العظام وإجراء البتر، وهذا ما نراه في الأدوات الجراحية في مقابرهم مثل المشرط والملاقط وأدوات الكي. أما الأغرب من ذلك، فأنه كان هناك أطباء بيطريون متخصصون في علاج الحيوانات.
فلا عجب إذن أن يمتد تأثير الطب المصري القديم إلى ما وراء وادي النيل، فقد درس العلماء اليونانيون، ومنهم أبقراط وغالينوس، النصوص الطبية المصرية ودمجوها بمعارفهم في ممارساتهم، وكانت هذه البداية التي مهدت لاحقًا للطب في الغرب.
أسرار التحنيط وأسطورة البعث
اعتقد المصريون أن الموت مجرد محطة عبور إلى الخلود والحياة الأبدية، ولضمان الوصول إليها لا بد من الحفاظ على الجسد قدر الإمكان حسب اعتقادهم آنذاك، وبالطبع استخدموا أحدث تقنياتهم لبلوغ هذه الغاية.
كان يقوم بالتحنيط مجموعة من العمال كما ذكر هيرودوت في كتابه “هيرودوت يتحدث عن مصر”. رجل يحدد فتحة التحنيط أي مكان إخراج الأحشاء الداخلية ويسمى “الكاتب”، أما الرجل الذي يقوم بفتحها فيسمى “الجراح”، أما صاحب الدور الرئيسي فهو المنفذ الذي يرتدي قناع الإله “أنوبيس”، وهناك الكهنة المساعدون.
من خلال فتحة صغيرة، يصل طولها إلى بضعة سنتيمترات فقط في الجانب الأيسر من البطن، تمكن المحنط المصري القديم من الوصول واستخراج كافة أعضاء الجسد الآدمي، أما المخ فكان يتم نزعه من خلال فتحة الأنف، لتبدأ عملية التحنيط. وكانت المواد المستخدمة تبدأ بالماء كمادة للتطهير، وكان الهدف منها إعادة الجسد إلى لحظة الميلاد بنقائها وطهرها، بعدها يتم استخدام مادة النطرون، وهو ملح طبيعي من كربونات الصوديوم، كان يستخدم في عملية التجفيف التي كانت تستمر 40 يومًا، ثم تتم معالجة البشرة الخارجية بتغطيتها بالكامل بزيوت طبيعية، الأرجح أنها كانت مزيجًا من زيوت نباتية وشحوم حيوانية، ومراهم صنعوها خصيصًا لغرض التحنيط، بعدها يتم تقميط الجسد بالكامل بطبقات متعددة من الكتان والقماش المبلل بمزيج من الزيوت، ثم يوضع في تابوت.
ومن أغرب ما يحدث في عملية التحنيط أن القلب كان يُوضع داخل الجسد بعد معالجته بالعقاقير، باعتباره له دورًا في العالم الآخر، إذ اعتبروه العضو المسؤول عن نيات وأعمال المتوفى. فعند بدء المحاكمة (كما تروي أسطورة كتاب الموتى) يقف الإله أنوبيس بالقرب من الميت لإجراء عملية وزن قلبه، فيضع القلب على كفة الميزان ويضع ريشة الحق أو “ماعت” على الكفة الأخرى. فإذا كان القلب أخف من ريشة الحق جاز للميت أن يدخل عالم الخلود إلى جانب الآلهة، أما إذا كان القلب أثقل من الريشة، يُلقى صاحبه إلى “عمعموت” ليلتهمه، وهو وحش له رأس أسد وجسم فرس النهر وذيل تمساح.
لذلك كانت عملية التحنيط تتم بدقة شديدة كتهيئة لهذه المحاكمة الكبرى، فكانت تستغرق قرابة العشرة أسابيع في إطار طقوس دينية وشعائرية، وذلك بحسب كتاب “100 حقيقة مثيرة في حياة الفراعنة” لعالم المصريات الدكتور زاهي حواس.
وبالطبع فإن عبقرية المصري القديم في التحنيط اعتمدت على تقدمه في علم الطب والتشريح ورصد الأمراض، مما مكنه من اختيار طرق حفظ الجسد بعد الوفاة. لكن يظل اللغز في نسب المواد وطبيعة التركيبة المستخدمة في عملية التحنيط للحفاظ على الجسد، وهو الأمر الذي يتعلق بـ”سر الصنعة” لدى أجدادنا القدماء.
الهندسة المعمارية والبداية إمحوتب
قيل أيضًا إن المصريين كانوا يضعون الحجر على أوراق البردي السحرية، ويطرقون عليها فيندفع الحجر إلى مكانه بالهرم، وفي تكهناتهم زعموا أن الهرم كان مركز اليابسة للقارات الخمس، وإن هرم خوفو لم يُبنَ كمقبرة، بل كمرصد فلكي. ومن بناه هم بنّاءو كهنة آمون في الأسرة الثانية، وهناك ادعاء آخر يقول إن من بنى الأهرامات هم عمالقة قوم عاد، وروجوا في الآونة الأخيرة لادعاء جديد فقالوا إن من شيد الأهرامات هم كائنات فضائية! فما كانت كل هذه الشطحات المضحكة سوى تأكيد لعبقرية المصري القديم التي تُذهل العقول في البناء والهندسة المعمارية.
فليس هناك كعبقرية المهندس والطبيب إمحوتب (رسول السلام)، الذي اعتبر أول من وضع أسس الهندسة المعمارية في الحضارة المصرية القديمة، والبداية كانت بتشييده هرم “زوسر” المدرج، المكون من ست مصاطب، وكان مصنفًا كأطول مبنى في العالم، ويُعتبر أقدم هرم مصري معروف. كانت فكرة إمحوتب في البداية تتمثل في تشييد مقبرة مثل المصطبة المستطيلة كالمعتاد وقتها، لكن يبدو أنه تأثر بأفكار دينية جعلته يحولها إلى هرم مدرج، لكي يمثل صعودًا للملك نحو معبد الشمس وعالم السماء، وبفكرة إمحوتب أصبح الهرم هو الشكل المميز للعمارة المصرية القديمة.
واستمر المصريون القدماء في بناء أهرامات لمدة 500 عام، وأنشئت خلالها أهرامات الجيزة التي مثلت ذروة التقدم المعماري منذ بنائها وحتى الآن. وبذلك انتقلت الحضارة القديمة إلى عصر الهندسة المعمارية التي أصبحت تروي قصص المصريين وتُظهر علاقتهم القوية بأراضيهم وآلهتهم. واستمر تطور العمارة المصرية، فأنشئت المعابد والمدن والمسلات التي ألهمت العالم في تصميم الآثار والهياكل المهيبة.
أسطورة آمون رع وعجائب علم الفلك
أما علم الفلك عند المصريين القدماء، فلا مجال أمامنا سوى أن نبدأ بأسطورتهم الكبرى حول “الشمس” والإله “آمون رع”، الذي حاولوا الاقتران به بشتى الطرق وأكثرها غرائبية على الإطلاق.
“آمون رع الإله الذي يستيقظ من نومه فجرًا ليضيء العالم!”
اكتسب تلك المنزلة كونه إلهًا للشمس، فنحته المصريون القدماء على جدران معابدهم تخليدًا لفضله على العالم. وكما تخبرنا الأسطورة الفرعونية، “أنه في نهاية اليوم يموت، فيبدأ سفره إلى العالم السفلي تاركًا القمر يضيء الجزء العلوي. وما بين بداية اليوم ونهايته، يسافر عبر نهر النيل فلا تخلو رحلته من كرب! فيواجه “أبيب” الشيطان ليدمره أغلب الأحيان، ولكن في أيام العواصف والكسوف، يُكلل النصر تاجًا على رأس أبيب ويحل الظلام!”
وتتجلى أكبر المعجزات الفلكية المرتبطة بآمون رع إلى يومنا هذا في معبدي أبو سمبل، حيث تتسلل أشعة الشمس إلى الغرفة المقدسة لكي تتعامد على قدس أقداس معبد الملك رمسيس الثاني، في ظاهرة فريدة تتكرر مرتين كل عام، يومي 22 أكتوبر و22 فبراير، حيث يتزامن هذان اليومان مع يوم مولد الملك رمسيس الثاني ويوم تتويجه على العرش، لتشع بنورها على منصة عليها تمثاله جالسًا وبجواره تماثيل المعبودات رع حور آختي وآمون، وكذلك المعبود بتاح الذي لا تتعامد الشمس على وجهه حيث اعتبره المصري القديم معبود الظلام.
تتجسد فلسفة النور في مصر القديمة وتقديس قدماء المصريين للشمس أيضًا في تعامد أشعتها على الهرم الأكبر ظهيرة يوم السابع والعشرين من فبراير من كل عام، بل والأغرب من ذلك أن الواجهة الشمالية للهرم الأكبر تظل مظلمة 137 يومًا في العام، وتعود الشمس لتضيئها طوال 228 يومًا، وهو ما لا يدع مجالًا للمشككين في براعة المعماري المصري القديم وربطها الدقيق بالظواهر الفلكية التي اندمجت بالطقوس الدينية.
لم يكن غريبًا إذن أن يكون هناك كاهن خاص لمراقبة سير الشمس، وهو الكاهن رع الأكبر أو “الرائي العظيم”. كما كان في المعابد أيضًا جماعات كهنة لمراقبة سير النجوم وحركة الكواكب، وكانت لديهم معرفة تامة بمنازل القمر، ووضعوا الأشهر القمرية، والتقويم المكون من 365 يومًا، واليوم المكون من 24 ساعة. ورسموا خريطة كاملة للسماء الليلية ونجومها وكواكبها، وكان لديهم أبراجهم الخاصة. كما استطاعوا من خلال مراقبة الأجرام السماوية اكتشاف ظاهرة خسوف القمر وكسوف الشمس، وأيضًا ظاهرة الاقتران النجمي.
ولم تكن معرفة المصريين القدماء بعلوم الفلك مرتبطة فقط بأمور دينية وشعائرية، إنما وظفوها أيضًا في شؤونهم الحياتية، وأولها الزراعة. فبتطابق مع مواقع الشمس قسموا السنة إلى ثلاثة فصول، وهي: فصل الفيضان والمكون من أربعة أشهر (توت، بابه، هاتور، كيهك)، وفصل الزرع والإنبات والانبعاث (طوبة، أمشير، برمهات، برمودة)، ثم فصل الحصاد والجفاف (بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى). وكل شهر ثلاثون يومًا، وأضافوا خمسة أيام في نهاية السنة اعتبروها فترة عطلة وأعياد، وذلك لكي يتطابق حساب السنة مع فيضان النيل ومع مواقع الشمس.
وكان اليوم في نظرهم ينقسم إلى اثنتي عشرة ساعة نهارًا واثنتي عشرة ساعة ليلًا مهما كانت فصول السنة. وقد كانت تقاس أوقات اليوم بساعات على أنواع مختلفة، منها الساعات الشمسية أو “المزولة” وهي آلة تعرف ساعات النهار بوساطة الظل، وساعة مائية وهي إناء ذو حجم معين مقسم إلى أقسام، كل منها يفرغ في زمن محدد. أما خلال الليل، فكانت كذلك تُعرف الساعات بمراقبة النجوم ورصدها، لما لها من تأثير مباشر على شؤون حياتهم ومعتقداتهم.
هكذا استطاع المصريون القدماء تحقيق السبق في شتى العلوم، وكانت الأسطورة لديهم ذات بعد فلسفي وديني عميق. فهذا هو المصري القديم الذي أنجز وأبدع على مر العصور والأزمنة في العلم والفكر والتأمل، حتى انبهر به العالم واستحدث له علمًا وهو علم المصريات، مما يؤكد حقيقة واحدة باقية، وهي أن “مصر بلد صنعت التاريخ”
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية