من الطفولة إلى الخذلان
وفي هذا السياق، أوضحت الدكتورة ايمان عبد الله، استشاري نفسي، أنه لا أحد يستيقظ فجأة يجد نفسه مصاب بمتلازمة الشك القهري، الأمر يشبه خيطًا رقيقًا يبدأ من سؤال بسيط، ثم يمتد تدريجيًا ليصبح العديد من الأسئلة، فأحيانا يبدأ من الطفولة بسبب كثرة عتاب الأطفال على افعالهم وتكرار هذا الأمر مما يجعله يظن أن الخطأ لا يغتفر وأن الصواب بجب أن يكون كاملا، وأحيانًا أخرى تظهر البذرة عند أول تجربة خذلان، أو أول علاقة انتهت فجأة، أو فشل صغير استقبله صاحبه وكأنه نهاية العالم.

التفكير والقرار
وأوضحت الاستشاري النفسي أن متلازمة الشك القهري هي نوع من أنواع الوسواس القهري، لكن بدل أن يرتبط الوسواس بالنظافة أو العد أو الترتيب، يكون مرتبطًا بـ التفكير والقرار، والمريض هنا يشك بشكل مبالغ فيه لدرجة لا تشعره بالراحة أو الاطمئنان، حتى بعد أن يتأكد من شيء ما، يعود إليه الشك من جديد وكأن شيئًا لم يحدث.

على سبيل المثال شخص يتأكد من غلق الباب 10 مرات، شخص يعيد قراءة رسالة قصيرة 20 مرة قبل إرسالها، شخص يشك في مشاعره، وفي نوايا الآخرين، وفي صحة اختياراته، هذا الشك يسمى قهريًا، لأن المريض يشعر بأنه مضطر للتأكد، رغم أنه يعرف أن الأمر مبالغ فيه.

أسباب متعددة
أما عن الأسباب الطبية وراء الإصابة بهذه المتلازمة تقول د. إيمان إن هناك عوامل داخل الدماغ لأن المخ به مناطق تتحكم في اتخاذ القرار، وتقييم المخاطر، وإرسال المشاعر، ولكن عند الإصابة بالشك القهري يحدث خلل في التواصل بين هذه المناطق، مما يجعل الدماغ غير قادر على الشعور باليقين.

وهناك استعداد وراثي يجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بالوسواس القهري بأنواعه، ومن ضمنها الشكّ القهري، وأكدت د. إيمان أن التربية الصارمة أو المثالية العالية هي من أكثر الأسباب شيوعًا في الإصابة بالشك القهري، فالأطفال الذين تربوا على الخوف الشديد من ارتكاب الخطأ، والعقاب المبالغ فيه، والمقارنات المستمرة مع اقرانه، وضرورة الوصول للكمال، هؤلاء غالبًا يصبح لديهم خوف داخلي من اتخاذ قرار خاطئ، فيكبر معهم هذا الخوف ويتحول إلى شك دائم.

وتابعت؛ أيضا الخيانة، فقدان شخص، المرور بموقف محرج، أو الفشل في تجربة مهمة، هذه التجارب تزرع داخل العقل فكرة "لازم أتأكد.. حتى لا أشعر بالألم النفسي"، كما أن الأشخاص القلقون بطبيعتهم أكثر عرضة لهذه المتلازمة، لأن عقلهم يعمل بسرعة، ويفكر في كل الاحتمالات.

التفكير الزائد والخوف
ومن جانبه، يقول الدكتور عبد العزيز آدم، استشاري نفسي، إن أعراض الإصابة بمتلازمة الشك القهري يمكن أن يلاحظها المريض على نفسه مثل التفكير الزائد في كل شيء، وتحليل المواقف بشكل مبالغ فيه، والشك المستمر حتى في الأمور الواضحة، وتكرار نفس السؤال داخليًا، والشعور بالخوف من اتخاذ قرار.

وتابع، أيضًا سؤال الآخرين للتأكد مرارًا وتكرارًا، وتجنب المواقف التي تحتاج لاتخاذ قرارات، ومراجعة كلامه بعد أي حوار خوفًا من أنه أخطأ، والتردد في كل صغيرة وكبيرة، أيضا الشعو بالتوتر الدائم، والأرق، والصداع، والإرهاق الذهني، وفقدان التركيز، هذه الأعراض تجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة لأن العقل لا يتوقف.

فوبيا الصحة
أما عن علاقة فوبيا الصحة أو هوس الأمراض بالشك القهري، فأوضح د. عبد العزيز، هي حالة يعيش فيها الشخص في خوف دائم من الإصابة بمرض خطير، حتى لو كانت صحته جيدة، هذه الحالة تفسر كثير من تصرفات الموسيقار محمد عبد الوهاب، المعروف باهتمامه الزائد بصحته وخوفه المستمر من المرض.

الشك القهري يدور حول الأفكار والقرارات، أما فوبيا الصحة تدور حول الجسد والأعراض، لكن الآلية النفسية واحدة تقريبًا خوف، والتفكير الزائد، مع الحاجة للتأكد، وعدم الاطمئنان الدائم، لذلك، الشخص الذي يعاني من فوبيا الأمراض يتابع جسمه بشكل مبالغ فيه، ويشعر أن أي عرض بسيط قد يكون خطيرًا، ويكرر زيارة الطبيب، ولا يشعر بالاطمئنان حتى مع تأكيد الأطباء، وهذا يشبه تمامًا دائرة الشك القهري لكن في مجال مختلف.

عبد الوهاب نموذج
وأشار إلى أن الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب نموذج واضح، فقد كان عبقريًا، حساسًا، ومرهف الحس، هذه الحساسية جعلته يراقب صحته دائمًا، ويخاف من العدوى، ويستشير أطباء كثيرين، ويبتعد عن أي شيء يشعر بأنه قد يسبب له المرض، وهذه السلوكيات هي انعكاس واضح لفوبيا الصحة، والتي تُعتبر نوعًا من أنواع الأفكار القهرية.

طرق للعلاج
وعلاج الشك القهري حسبما أوضح الاستشاري النفسي أنه يعتمد على ثلاث ركائز أساسية وهي العلاج المعرفي السلوكي وهو أهم وأقوى علاج يعمل على تعليم المريض كيفية التعامل مع الأفكار المزعجة، وتقليل الحاجة للتأكد، وتدريب العقل على تحمل عدم اليقين، وكسر دائرة التفكير الزائد، وتقليل التردد والقلق، وهذا النوع من العلاج يعيد للمريض السيطرة على قراراته بدل أن تسيطر عليه أفكاره.

وبعض الحالات تحتاج لأدوية تقلل الوسواس والقلق، خصوصًا مضادات الوسواس القهري، وبعض مضادات الاكتئاب، وأدوية تساعد على تهدئة التفكير، وهذه الأدوية لا تعالج وحدها، لكنها تساعد في تخفيف حدّة الأعراض، مما يجعل العلاج السلوكي أسهل.

وأكد د. عبد العزيز أنه يجب على المريض أن يلزم بنمط الحياة الصحي، من نوم جيد، وحركة يومية، وتقليل العزلة، وتجنب العلاقات السامة، وتقليل الكافيين، مع ممارسة الهوايات، وتنظيم اليوم هذه الأمور تدعم العلاج وتسرع التعافي.