تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > سبوت : احذر أن تبتسم.. الإيجابية السامة تهدد صحتك النفسية
source icon

سبوت

.

احذر أن تبتسم.. الإيجابية السامة تهدد صحتك النفسية

كتب:مروة علاء الدين 

 انهارت "ليلى" في منتصف اجتماع العمل بعد شهور من التماسك الظاهري والابتسامات المصطنعة، كانت تكرر دوما جملة: "أنا قوية وسأتجاوز كل شيء"، بينما كانت تعاني من ضغوط مالية ومشكلات أسرية خانقة، بدا وكأنها تخوض حرباً صامتة خلف جدار من الكلمات المطمئنة، إلى أن سقطت، قصتها ليست استثنائية، بل تعكس ظاهرة نفسية يزداد الحديث عنها في الأوساط العلمية والاجتماعية مؤخرًا، وهي ما يعرف بـ"الإيجابية السامة" أو Toxic Positivity، حيث يتحول التفاؤل من قوة محفزة إلى قناع خانق، يخفي وراءه مشاعر مكبوتة وصراعات داخلية غير معترف بها.

لقد تم الترويج للإيجابية باعتبارها علاجًا سحريًا للتحديات النفسية، وأداة لمقاومة الإحباط، لكن أطباء ومختصين نفسيين باتوا يحذرون من الإفراط في تمجيدها، خاصة عندما تستخدم كقناع للهرب من المشاعر الحقيقية أو قمع الألم.

بحسب جمعية علم النفس الأمريكية (APA)، يشير مصطلح "الإيجابية السامة" إلى محاولة فرض التفاؤل في كل المواقف، حتى تلك التي تتطلب الحزن أو الغضب أو المواجهة، ما يؤدي إلى إنكار المشاعر الحقيقية وتراكم الضغوط النفسية.

بين التحفيز والإنكار
يبدأ الدكتور شريف حسن، الطبيب النفسي، حديثه بتوضيح أن الإيجابية في أصلها قيمة إنسانية داعمة، لكنها تتحول إلى آلية مؤذية عندما تستخدم لإنكار المشاعر السلبية.

يقول: "إذا كنت في منزل يشتعل، فشعورك بالخوف سيدفعك لإطفاء الحريق أو النجاة أما إذا أقنعت نفسك بأن كل شيء جيد، فأنت ببساطة تحترق دون أن تتحرك، هذا هو جوهر الإيجابية السامة".

ويتابع: "التفاؤل لا يعني أن نغلق أعيننا عن الواقع، بل أن نمتلك الإرادة للتعامل معه، تجاهل الحزن أو القلق أو الغضب باسم التفكير الإيجابي يعد تضليلا للذات، وقد يؤدي لاحقا إلى نوبات قلق مزمنة، اكتئاب، وتدهور في العلاقات الاجتماعية".

ويشير د. شريف إلى أن محاولات قمع المشاعر السلبية ترتبط بزيادة أعراض التوتر والانفجار العاطفي لاحقا، وليس العكس كما يعتقد البعض.

تفاؤل قهري 
وجد الباحثون أن قمع المشاعر السلبية لصالح "التفكير الإيجابي القسري" يرتبط بارتفاع في مستويات هرمون الكورتيزول، المسئول عن التوتر، مما يؤدي إلى اضطرابات النوم والصداع المزمن وزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، تؤكد الدراسة أن الضغط المستمر لمجاراة حالة نفسية غير حقيقية – تحت اسم الإيجابية – يؤدي إلى "توتر بيولوجي صامت"، ينهك الجهاز العصبي مع الوقت، ويقلل من قدرة الفرد على التعامل المرن مع التحديات.

إيجابية سطحية 
من جانبها، تحذر الدكتورة الطاهرة العماري، استشارية الطب النفسي والعلاقات الأسرية، من أن الإيجابية السطحية قد تستخدم كآلية دفاع نفسية للهروب من مواجهة الواقع.

وتوضح: "كثيرون يرددون عبارات مثل (كل شيء سيكون بخير) حتى وإن كانت جميع المؤشرات تشير إلى العكس، المشكلة ليست في التفاؤل نفسه، بل في تحويله إلى وسيلة للهروب من الألم الحقيقي".

وترى أن هذا النوع من التفكير لا يمنح الإنسان فرصة لتقدير حجم المشكلة أو اتخاذ قرار ناضج، بل قد يؤدي إلى تأجيل الاعتراف بالأزمات، وبالتالي تراكمها. وتضيف: "الشخص الذي يكرر على نفسه جملة (أنا قوي وأتحمل) دون أن يواجه مشاعره، يقترب من لحظة الانهيار، التعبير عن الألم لا ينقص من قوتنا، بل هو الخطوة الأولى نحو التعافي".

وتستشهد د. العماري بتجربة سريرية تابعتها بنفسها، لامرأة ظلت تعاني من نوبات صداع مزمنة، لم يجد الأطباء لها تفسيرًا عضويًا، وبعد جلسات العلاج النفسي، تبين أن جذور الألم كانت نفسية بحتة، ناتجة عن كبت طويل لمشاعر الحزن بعد وفاة والدها، تقول د. العمارى: "الإيجابية وقتها كانت مجرد غلاف لخوف داخلي من الانهيار".

في قلب العلاقة الزوجية
تسلط ميرفت رجب، استشاري العلاقات الأسرية والتربوية، الضوء على تأثير الإيجابية المفرطة داخل البيت، لا سيما في العلاقة بين الزوجين.

تقول: "حينما تقابل شكوى أحد الشريكين بعبارات إنكارية مثل (ما تبقاش نكدي) أو (خليك إيجابي)، تتكون فجوة صامتة بين الطرفين، هذه الفجوة تنمو مع الوقت وتفقد العلاقة صدقها ودفئها".

وتضيف أن الكثير من الأزواج يعتقدون أن إظهار الضعف أو القلق يعد فشلًا في إدارة العلاقة، فيتظاهرون بالقوة الدائمة والتفاؤل المفرط، ما يعيق الحوار الحقيقي، وتشير ميرفت إلى أن الإيجابية السامة قد تخفي وراءها عجزًا عن تحليل المواقف أو مواجهة الواقع، وغالبا ما يهيمن عليها "الأنا الطفولية"، التي تهرب من المسؤولية والتفاعل الناضج، وعندما يقابل هذا النمط بشريك ناضج وواقعي، تنشأ فجوة في التفاهم والتواصل.

وترى ميرفت أن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز هذا النمط من التفكير، عبر الترويج المستمر لحياة مثالية، مليئة بالابتسامات والقصص الملهمة، مما يخلق ضغوطا نفسية على المتابعين تدفعهم لمحاكاة هذه الحالة المصطنعة، حتى وإن كانت ظروفهم قاسية.

وتنصح الأسر بخلق بيئة حوار تسمح بقول "أنا متضايق" دون اتهام بالتشاؤم، وتشجع الشركاء على التعبير عن مشاعرهم السلبية في جو آمن وداعم، والتعامل مع هذا النوع من الشخصيات من خلال تحفيزهم بشكل غير مباشر على التفكير والنضج، عبر تكليفهم بمسؤوليات صغيرة، وتقديم الدعم حين يطلبونه، وفتح باب الحوار المنطقي بدون سخرية أو ضغط.

خداع السوشيال ميديا
ترى الدكتورة مي عبد الغفار، أستاذة علم الاجتماع بجامعة القاهرة، أن منصات التواصل الاجتماعي لعبت دوراً كبيرًا في نشر ما تصفه بـ "الإيجابية التجارية"، وهي نمط من التفكير يسوق فيه التفاؤل والسعادة كمنتج قابل للبيع، وليس كحالة إنسانية طبيعية ذات سياقات متعددة. 

تقول: "المؤثرون على مواقع التواصل غالبًا ما يقدمون وصفات للحياة الإيجابية دون أي ارتباط بسياق حقيقي أو تجربة شخصية متكاملة، مثل: ابتسم رغم كل شيء، أو استيقظ كل يوم ممتنًا، المشكلة أن هذه العبارات تنتزع من الواقع وتقدم كأنها معيار للنجاح النفسي، ما يضع ضغطًا خفياً على المتابعين، ويدفعهم إلى نوع من التمثيل العاطفي؛ حيث يجبرون على إظهار مشاعر لا يشعرون بها في الحقيقة".

وتضيف أن الثقافة العربية لا تزال تميل إلى تحميل الفرد مسئولية مشاعره بالكامل، وتربط بين الحزن والضعف، وبين القلق وقلة الإيمان، ما يجعل من الإيجابية المفرطة شكلًا من أشكال الهروب الجماعي من تجربة المشاعر الإنسانية الطبيعية، وتحذر من أن هذه النظرة قد تكرس مشاعر الذنب والرفض للذات عند المرور بأي حالة نفسية غير إيجابية.

إعلانات "التفاؤل الجاهز"
تؤكد د. مي أن ما يعرف بمدربي الطاقة أو بعض رواد التنمية البشرية غير المتخصصين، ساهموا في ترسيخ نموذج مشوه للتفاؤل والسعادة، حيث تطرح مفاهيم السعادة والرضا النفسي كمنتجات يمكن الحصول عليها من خلال جمل تحفيزية جاهزة، يتم ترويجها كحلول نهائية لمشكلات عميقة ومعقدة.
 وتضيف أن هذه الرسائل تتجاهل تماما الخلفيات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للأفراد، ما يؤدي بالبعض إلى الشعور بالفشل الذاتي إذا لم يستطيعوا "الشعور بالتحسن" وفقا للمعايير المتداولة.

وتلفت إلى أن منصات مثل إنستجرام وتيك توك لعبت دورًا محوريًا في تصدير "النموذج المثالي للمتفائل الناجح"، من خلال صور ومقاطع قصيرة تظهر الحياة وكأنها مجرد سلسلة من الإنجازات والابتسامات، ما يخلق فجوة بين الواقع والمتخيل. 

وتضيف: "يتحول الفرد العادي إلى مجرد متلق ومستهلك لهذه الصور، ويبدأ في جلد ذاته فقط لأنه يشعر بالتعب، أو لأنه لم يستيقظ صباحا مبتسما أمام الكاميرا كما يفعل الآخرون".

تفاؤل واع لا قناع زائف
إن التفاؤل، حين يمارس بوعي وصدق، يعد أحد أهم عوامل التكيف مع الأزمات، لكنه يفقد معناه إذا تحول إلى أداة للهروب أو الإنكار. فكما لا يمكننا العيش في ظلام دائم، لا يجوز أن نعيش تحت ضوء مزيف.

الخطوة الأولى نحو توازن نفسي حقيقي تبدأ بالاعتراف؛ بالحزن، بالخوف، بالغضب، السماح لأنفسنا بالبكاء وبالاعتراف بالضعف، هو ما يمنحنا المناعة النفسية الحقيقية، أما التفاؤل الصادق، فهو ذاك الذي لا ينكر الألم، بل يصاحبه ويمنحنا الشجاعة لنواجهه.
 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية