تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
"الرصيف مقهى وتحته نبيذ، الزجاجة تسمع وقع أقدام النادل فتنحني وتتعتق، السماء الرمادية، والسحب سوداء، والمطر قادم، المقهى حديقة حب.. المقهى كتاب على الرصيف والرصيف كشك ثقافة.. وسور السين متحف على شريط والوردة لها أكثر من ساق.
الشجرة امرأة عارية أصابعها أوراق الشجر، وأياديها أفرع خضراء القمر لص، لا يأتي إلا نادرًا.. والشمس ترتدي الحجاب.. والحب زهرة في كل ركن، أو خلف الباب، أو تحت أنفاق، أو على درج تحت سقف".
يجلس على رصيف مقهى في ساحة "الجيزوييه"، يرى حفرة في وسط الميدان تعلوها يافطة على عمود أسود يلتف حوله فرع من نبات ذي أوراق برونزية اللون، ويرى الناس تهبط داخل هذه الحفرة وتختفي، وكأنهم أسراب من النمل تدخل جحرها، لحظات، ورآهم يخرجون منها، علم فيما بعد أنها أنفاق مترو باريس المشهور، سارحًا، شاردًا، لا يعرف الطريق يهبط الدرج متحسسًا خطواته، بنفس الطريقة التي هبط بها من قبل إلى مقبرة سيتي الأول في البر الغربي للأقصر، الظلام كابوس داخل أسطوانات ومواسير يمرق من خلالها القطار، كأنه ثعبان طيب القلب يحمل الناس من شمال باريس إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، يأتي القطار من عمق النفق المظلم ويزأر كأسد مجهول يدخل عرينه الذي يعرفه يتحرك الناس في اتجاهين متضادين من يخرج إلى أعلى يلتقي بالسماء وتعانق رأسه العارية الشمس والقمر.
الفاصل بين السماء والأرض هو كارت صغير تدخله في جهاز فتفتح لك بوابة معدنية وتنطلق عبر هذه الأنفاق الجهنمية.
يستهويه مترو الأنفاق فيجلس بالساعات على الدرج، الأقدام تهبط وتصعد من حوله وهو وسطهم متسول أو كلوشار أو شخص منسي لا يعيره أحد أي التفات.
إعلانات تخطف الأبصار في كل محطة ويقول "فلتس" ضاحكًا لأحد الأصدقاء: إنني أهبط المحطة لأتفرج على الإعلانات، تحرضه الإعلانات على تدخين الجلواز والاتصال ببائعات الهوى وقراءة شكسبير وأشياء أخرى. ورحت أملأ كراريسي التي اشتريتها قبل الساندويتش في الطريق وتحت أنفاق المترو وعلى الرصيف وداخل علب الليل، حيث اخترت ركنًا ثابتًا في علبة صغيرة مكتظة بشباب الهيبيز أرسمهم حتى الصباح. حتى حفظوا ركني المفضل وفوجئت بأكواب البيرة تملأ مائدتي إعجابًا برسمي من هؤلاء الشباب الذي يجوب أوروبا معه الحب ورغيف الخبز.
اختاروني بعد ذلك، بعد أن رسمتهم واحدًا واحدًا لأعرضه في قاعتهم في دوسلدورف وسافرت معهم واحتفلوا بأعمالي، باعوها، غالبًا، حضرت باريس لأشتري إبرة حبر روترنج جديدة وكراسة رسم وعصا الخبز وقطعة جبن.
ويختار الفرنسيون والزوار مغزى الخطوط المتعرجة المتشابكة المعقدة على حافة محطة الأنفاق، يبحثون وسط التشابك عن نقطة يريدها كل منهم، ويمسي العمود الفاصل المعدني الذي يربط سقف القطار بأرضيته ملاذًا للأيدي حرصًا على التوازن، ولا تلمس يد يدًا أخرى، ولو حدث فكلمة الاعتذار متداولة في إفراط.
وتفتح سيدة بعوينات كتابًا واضعة ركبة على الثانية تاركة مجال الرؤية مفتوحًا؛ فيرى وهو قابع في ركن قصي من العربية ثلاثة أشياء النظارة والكتاب والركبتين، يشد ورقته وقلمه ويضيع بين خطوطه وينسى محطته والعالم من حوله ولا يرى إلا هذه الأشياء الثلاثة.
وتجلس أخرى في مقاعد الأنفاق، على ركبتها حقيبة وكتاب، وفي كتفها علامة سوء الظن بالجو، تسدل شعرها على الجانبين، ويتصفح جارها صحيفة اليوم، أو الأمس، وتزدحم العربة، فلا يرى أحد الآخرين ويغوص كل داخل نفسه، يراقب فقط المحطات.
وتتكرر الحالة مع بعض التجديد، فالوجوه والأزياء تتغير وسيقان الحسناوات تزداد تنوعًا والأصوات تتغير أصداؤها مع الضجيج. ويعود إلى الجريدة، ثم تفتح الكتاب، ولا يتحدث أحد، الكلب.. ممنوع، لكنه صامت داخل حقيبة يد صاحبته، تلمس وتهدهد شعر رقبته، وجزء من ذيله وتلمس بحركة خاطفة ما بين فخذيه.
أثناء الخروج، تزحف آلة التنظيف في المحطة يجرها عجوز من تونس أو بنجلاديش.
وتنكمش خلفية حسناء وهي تشب لتعانق شابًا عملاقًا من السنغال وتمصمص شفتيها بعد القبلة لتحتفظ لأطول فترة ممكنة بلعابه.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية