تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
في شهر سبتمبر تعود إلينا ذكرى رحيل العبقري المصري الذي لم يطل عمره لكنه ترك إرثاً فنياً خالداً، سيد درويش، الذي رحل في 15 سبتمبر 1923 عن عمر لم يتجاوز الحادية والثلاثين.
ورغم قِصر سنوات عطائه، إلا أن أثره في الموسيقى العربية كان أشبه بالثورة التي غيرت شكل الغناء، وجعلت الفن مرآة صادقة تعكس هموم الناس وأحلامهم.
لم يكن سيد درويش مجرد ملحن عابر في تاريخ الموسيقى العربية، بل كان نقطة تحول كبرى غيرت شكل الغناء واللحن، وأدخلت الموسيقى الشرقية إلى مرحلة جديدة أكثر عمقاً وارتباطاً بالواقع الاجتماعي والسياسي.
وُلد سيد درويش في حي كوم الدكة بالإسكندرية يوم 17 مارس 1892، في بيت بسيط بين عمال وحرفيين وفقراء. هذا المناخ الشعبي الذي فتح عينيه عليه كان له أكبر الأثر في تشكيل وجدانه، فكان دائم الاحتكاك بالبسطاء، يغني معهم ويعبر عن همومهم، حتى صار صوته صوت الناس.
منذ طفولته، كان والده يتمنى أن يراه شيخاً معمماً حافظاً للقرآن، وبالفعل حفظ قسطاً كبيراً منه، لكن شغفه بالغناء والإنشاد جذبه إلى طريق آخر.
عمل في بداية حياته بالأفراح والموالد، يردد التواشيح الدينية والابتهالات، ثم واجه قسوة الحياة بعد وفاة والده واضطر أن يعمل مساعد نقاش ليعول أسرته، وهناك اكتشف العمال صوته الفريد فكان يغني لهم وهو يناول “المونة”، فيرتفع نشاطهم وهمتهم.
البداية الحقيقية جاءت حين التقى صدفة بالفنان أمين عطا الله الذي قدمه إلى فرقة مسرحية، لتبدأ رحلته مع الفن من الإسكندرية إلى الشام، حيث صقل موهبته ودرس أصول الموسيقى الشرقية على أيدي كبار أساتذتها. وعند عودته، لم يعد مقلداً لأحد، بل مؤلفاً ومجدداً يضع بصمته الخاصة.
مع انتقاله إلى القاهرة، لفت أنظار كبار الفنانين وعلى رأسهم الشيخ سلامة حجازي، الذي تنبأ له بالعبقرية، لكن الجمهور في البداية لم يتقبل أسلوبه المختلف.
ورغم لحظات الإحباط، واصل إبداعه حتى نجح في أن يفرض نفسه كأحد أبرز الملحنين، خصوصاً بعد أن قدم أوبريت فيروز شاه لجورج أبيض، ثم تعاون مع نجيب الريحاني ليضع موسيقى أوبريت ولو، الذي انتشرت ألحانه بين الناس في الشوارع والمقاهي والمصانع والحقول.
خلال سنوات قصيرة لا تتجاوز ستة أعوام في القاهرة (1917 – 1923)، غيّر سيد درويش خريطة الغناء العربي. فقد لحن 22 أوبريتاً، ووضع أدواراً وموشحات وأغانٍ خفيفة تجاوزت الخمسين. وما يميز فنه أنه لم يكن ترفيهاً فقط، بل كان انعكاساً لروح عصره: أغانٍ وطنية دعمت ثورة 1919، وأخرى اجتماعية نقلت هموم العمال والفلاحين والحرفيين، حتى صار بحق "فنان الشعب".
لم يكن سيد درويش فناناً يعيش في برج عاجي، بل ظل قريباً من الناس حتى النهاية، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويسهر بينهم في الأحياء الشعبية. لم يعرف الادخار ولا الترف، فما يكسبه كان ينفقه على أمه وأسرته وأصدقائه، أو يوزعه على الفقراء.
رحل سيد درويش فجأة في 15 سبتمبر 1923، وهو في قمة عطائه، لم يتجاوز عمره 31 عاماً، لكن أثره تجاوز حدود الزمن.
رحيله مرّ بهدوء وسط صخب الاحتفالات الشعبية بعودة سعد زغلول من المنفى، وكأن القدر اختار أن يغادر في نفس اليوم الذي تتجلى فيه ثمار الثورة التي تغنى بها.
اليوم، وبعد أكثر من قرن على ميلاده، يبقى سيد درويش مدرسة قائمة بذاتها، جمع بين عبقرية التلحين وصدق الانتماء إلى الناس.
هو الفنان الذي حرر الموسيقى الشرقية من قيودها، وفتح لها أبواباً واسعة، وظل في ذاكرة المصريين والعرب رمزاً للثورة والحرية والفن الأصيل.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية