مع بداية الشتاء، يختبئ كثير من الناس تحت البطانيات بحثًا عن الدفء، لكن بعض النساء يختبئن من شيء أعمق: شعور ثقيل بالحزن، والخمول، وفقدان الرغبة في أبسط الأشياء .. هذه الحالة ليست مجرد “مزاج شتوي” كما يظن البعض، بل اضطراب نفسي حقيقي يعرف بـ الاكتئاب الموسمي الشتوي.
 

يُصنَّف هذا الاضطراب ضمن أنواع الاكتئاب المرتبطة بتغيّر الفصول، وغالبًا ما يبدأ مع قصر النهار وقلة التعرض لضوء الشمس، تشير تقديرات المعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية (NIMH) إلى أن الأعراض تظهر بشكل متكرر في الخريف والشتاء، ثم تتحسن في الربيع.

النساء أكثر عرضة للاكتئاب

الدراسات تشير إلى أن النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب الشتوي مقارنة بالرجال بنسبة قد تصل إلى أربعة أضعاف. توضح أبحاث منشورة في Journal of Affective Disorders أن التغيرات الهرمونية، إضافة إلى حساسية الجهاز العصبي لتبدل الضوء، قد تفسر هذا الاختلاف. كما تلعب العوامل الاجتماعية دورًا غير مباشر، مثل ضغوط المسؤوليات العائلية والمهنية التي تزيد في فترات الخمول والبرد.

لماذا يحدث هذا النوع من الاكتئاب؟

العلماء يربطون الاكتئاب الشتوي بعدة عوامل بيولوجية، أبرزها قلة ضوء الشمس حيث تؤثر على مستوى السيروتونين، وهو الناقل العصبي المرتبط بالمزاج الجيد.

بالإضافة إلى زيادة إفراز الميلاتونين في الظلام والذي يجعل الجسم يشعر بالنعاس والبطء. كما وأن نقص ڤيتانين د الناتج عن قلة الشمس قد يزيد من ضعف الطاقة والمزاج السلبي 

بحث حديث نُشر في مجلة Nature Mental Health أشار إلى أن انخفاض درجات الحرارة وقصر النهار يقللان من النشاط البدني، مما يفاقم أعراض الاكتئاب لدى النساء تحديدًا.

تختلف أعراض الاكتئاب الشتوي من امرأة إلى أخرى، لكنها غالبًا ما تتشابه في بعض الملامح العامة. فقد تشعر المصابة برغبة شديدة في النوم تمتد لساعات طويلة، إلى جانب زيادة ملحوظة في الشهية، خصوصًا تجاه الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات، مما يؤدي أحيانًا إلى اكتساب وزن زائد خلال فصل الشتاء. كما يرافق هذه الحالة فقدان الحماس وصعوبة في التركيز، إضافة إلى شعور عام بالكسل أو اليأس يجعل القيام بالمهام اليومية أمرًا مرهقًا نفسيًا وجسديًا. وإذا كانت هذه الأعراض تتكرر كل عام مع حلول الشتاء، فمن الضروري مراجعة مختص نفسي للتأكد من التشخيص ووضع خطة علاج مناسبة تساعد على تجاوز هذه الفترة بسلام.

تشير دراسات علمية متعددة إلى أن التغيّر المفاجئ في نمط الحياة بين فصلي الصيف والشتاء يُعدّ من العوامل التي قد تسهم في زيادة معدلات الاكتئاب الشتوي. فمع انخفاض درجات الحرارة وقلة ضوء الشمس، يقلّ مستوى النشاط البدني ويزداد الوقت الذي يقضيه الأفراد في الأماكن المغلقة، مما يؤدي إلى تراجع إنتاج هرمونات مرتبطة بالمزاج الإيجابي مثل السيروتونين. كما أوضحت أبحاث منشورة في مجلة Environmental Health Perspectives أن الانخفاض المفاجئ في التعرض للضوء الطبيعي واضطراب الإيقاع اليومي للجسم قد يسبب خللاً في الساعة البيولوجية، وهو ما يؤثر سلبًا على الحالة النفسية. وتبرز هذه التأثيرات بشكل أوضح لدى النساء، اللواتي غالبًا ما يتحملن مسؤوليات أسرية ومهنية مضاعفة خلال فترات الخمول الشتوي، مما يزيد من احتمالية شعورهن بالإرهاق النفسي أو العزلة.

كيف يمكن مواجهته؟

الخبر الجيد أن الاكتئاب الشتوي يمكن التعامل معه بطرق فعّالة ومتنوعة، تجمع بين العلاج الطبي وتغييرات بسيطة في نمط الحياة. فالعلاج بالضوء يُعدّ من أنجح الأساليب، إذ يعتمد على التعرض لضوء صناعي قوي في الصباح لمحاكاة تأثير أشعة الشمس وتحفيز النشاط. كما يساهم العلاج السلوكي المعرفي (CBT) في تخفيف الأعراض من خلال مساعدة المريض على تغيير الأفكار السلبية وبناء روتين صحي متوازن. ويلعب النشاط البدني دورًا مهمًا أيضًا، فحتى المشي لمدة نصف ساعة يوميًا في الهواء الطلق يمكن أن يُحدث فرقًا ملموسًا في الطاقة والمزاج. أما من الناحية الغذائية، فإن تناول الأطعمة الغنية بالأوميغا-3 والخضروات الورقية والفواكه الطازجة يدعم التوازن العصبي ويساعد على تحسين الحالة النفسية. وأخيرًا، فإن الحفاظ على تنظيم الحياة اليومية وفتح الستائر صباحًا مع الالتزام بمواعيد نوم ثابتة يُسهم في ضبط الساعة البيولوجية وتعزيز الإحساس بالنشاط والاستقرار النفسي.
بين الغيم والأمل

الشتاء ليس عدوًا للفرح، لكنه اختبارٌ للوعي بالصحة النفسية. الاكتئاب الشتوي ليس ضعفًا ولا ترفًا، بل حالة يمكن فهمها والتعامل معها علميًا. ومع قليل من الضوء، والنشاط، والدعم، يمكن تحويل “الشتاء غير الرومانسي” إلى فصل للتوازن والسكينة.