تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > الأهرام : صور | 100 سنة على ميلادها .. جاذبية سرى..ريشة مصرية ثائرة
source icon

الأهرام

.

صور | 100 سنة على ميلادها .. جاذبية سرى..ريشة مصرية ثائرة

فى منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر تخلع عنها أثواب الماضى, وتطل على أفق جديد مع ثورة يوليو 1952، كانت هناك ريشة امرأة ثائرة تبحث عن لغة بصرية جديدة قادرة على التقاط هذا التحول العميق الذى لم يكن سياسيًا فحسب، بل وجوديًا أيضًا.

تلك الريشة كانت لفتاة ولدت لعائلة مترفة، (11 أكتوبر 1925 - 10 نوفمبر 2021) لكنها ارتبطت بالواقع الذى كان يموج من حولها بالتفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية، تلك هى جاذبية سرى التى جاءت لوحاتها الفنية فى تلك المرحلة ساحة للثورة، تحولت فيها الخطوط والألوان إلى نشيد للتحرر السياسى والاجتماعى والفنى، ولم تعد الأجساد مجرد أشكال بشرية، بل مجرد رموز للأرض التى هبت من سباتها.

......

لم تكن جاذبية فنانة تراقب الأحداث من بعيد، بل عاشت فى قلب الأحداث، كان الفن عندها فعل مشاركة، لا انعزال، فكما خرجت الجماهير فى الشوارع تهتف للعزة والكرامة، وللتحرر والعدالة، جعلت هى من لوحاتها ساحة تنبض بذات المعنى، بالخط والضوء والظل، وبإيقاع اللون الذى لا يقل صدقًا عن صوت الإنسان فى الميدان.

بدأت جاذبية سرى رحلتها التحررية بنفسها، حيث آمنت بأن المرأة المصرية ليست تفصيلًا هامشيًا فى المجتمع، بل هى جوهر الكيان الوطنى ذاته، لذلك حين اندلعت الثورة، وقد كانت شابة حديثة التخرج تبحث عن شخصيتها، تحوّل حضور المرأة فى لوحاتها إلى رمز شامل للنهضة: فى ملامح الفلاحة، أو جسد الأم، أو نظرة الفتاة الحالمة.
 

فى كل امرأة رسمتها جاذبية فى تلك الفترة كانت تختبئ صورة مصر كما أرادتها الثورة: قوية، معطاءة، متجذرة فى الأرض، كانت المرأة المصرية فى أعمالها أشبه بنبع يفيض خصبا وصمودا، تحمل فى نظراتها عناد النيل، وفى وقفتها كبرياء الفلاحة، فلم تكن المرأة عند جاذبية مجرد موضوع فنى، بل كائن أسطورى يحمل فى طياته خصوبة النيل وصبر الأجيال، وإصرار الشعب على النهوض من تحت الركام، فى لوحاتها التى تجسد الفلاحات والنساء الشعبيات، نلمح مزيجًا من الحنان والشموخ، من الأنوثة والقوة، كأنها تقول: هكذا هى مصر.. تلد الحياة من رحم المعاناة.

......

تتحدث لوحات جاذبية سرى بلغة لا تُقرأ بالكلمات، بل تُسمع بالبصر، بألوانها الحارة: الأحمر المشتعل بالثورة، والأصفر الفائر كالنور، والأخضر اليانع كالزرع، والأزرق العميق كالحلم، لم تكن الألوان عند جاذبية سرى اختيارًا جمالياً فحسب، بل كانت بيانا ثوريا مكتوبا بالفرشاة.
 

كانت ترى أن اللون قادر على أن يبوح بما تعجز عنه الخطابات السياسية، فجاءت ضرباتها جريئة صارخة، حادة حينا، عذبة حينا آخر، لكنها دوما صادقة تقبض على اللحظة الزمنية بكل قوة، كأنها تخشى أن يفلت منها الزمن الذى تحاول أن توثّقه باللون والشكل.

وقد اتسمت جاذبية بطموح فنى لا يعرف حدودا، وجرأة لا تحدها قيود، وقد صدق الدكتور لويس عوض حين قال عنها: «جاذبية سرى قوة خطيرة فى الفن التشكيلى، هى شخصية مكتسحة، تأكل موضوعها، تملأ كل المساحات، تطفيء بجرأتها كل ما حولها».
لقد كانت جاذبية من أكثر فنانى جيلها ارتباطا بالثورة، ودفعت ثمن ثوريتها من حريتها، لكنها لم ترسم قط مشاهد الثورة بمعناها المباشر، فلا جنود فى لوحاتها ولا قادة، وفى الوقت الذى انفعل الفنانون والأدباء من حولها بالرمز الأكبر الذى جسد إرادة التغيير فاحتلت صورته ومنجزاته مساحات هائلة من الإبداع الفنى لتلك الفترة، كانت جاذبية سرى تستحضر فى لوحاتها روح التغيير ذاتها، فتجسد ذلك التيار الثورى الذى هزّ وجدان المصريين جميعًا، لم تأت لوحاتها تصويرا للثورة، بل امتداد لها فى بعدها الإنسانى، فصورت تحرير الإنسان من الخوف، ومن القهر، ومن التخلف. جسدت لوحاتها روح الانطلاق الحر نحو المستقبل فكانت هى الثورة ذاتها فى تعبيرها الفنى.+

.....

وقد أوصلت روح الانطلاق الفنى جاذبية فى مرحلة تالية من عمرها إلى عالم التجريد، فأخذت تبتعد تدريجيا عن التصويرية، متأثرة بالتعبيرية التجريدية التى اكتشفتها فى رحلتها الأمريكية والتى نجحت فى أن تخضعها لإرادتها الفنية، وطوعتها للواقع المصرى الذى ارتبطت به، والذى اختارته بإرادتها من البداية، منذ قررت فى أحد أيامها الأولى أن تنفصل لأول مرة عن عائلتها التى انتقلت من الحلمية إلى الحى الأرقى فى المنيل، لكنها هى تمسكت بالحى القديم فانتقلت من بيت الأسرة الكبير إلى شقة صغيرة فى نفس الحى، شقت منها طريقها الخاص.
 

لقد تخلت جاذبية فى مرحلتها التجريدية عن التفاصيل، لكنها لم تتخل عن ارتباطها بالواقع، وأذكر أنها حين قامت برسم لوحة شخصية لنازلى مدكور عام 1972 أنها طلبت منها أن تأتى إليها بوجه خال تماما من المساحيق، فقد كانت تقدس الصدق ولم تبتعد قط عن الواقع الحى، وهكذا بقيت فى أعماق لوحاتها ملامح الوطن، ففى خطوطها الحرة تلمح خريطة مصر، وفى دوائرها المضيئة ترى شمسها الساطعة، وفى تراكم ألوانها تشعر بحرارتها الجنوبية وبروحها الشعبية.

......

لقد تحولت تجربة جاذبية سرى الفنية إلى ما يشبه سيرة ذاتية للوطن، كانت تروى فصولها بالألوان بدلاً من الحروف، فكل مرحلة سياسية أو اجتماعية مرت بها البلاد انعكست على لوحاتها: من الواقع المأساوى فى الأربعينيات إلى التفاؤل الجماعى فى الخمسينيات، والانطلاق الثورى فى الستينيات، ومن التأمل والبحث الداخلى فى مرحلة ما بعد حرب 1967، إلى التجريد الروحى الذى عكس صفاء داخليا فى العقود الأخيرة من حياتها.
 

وقد جمعتنا أنا وزوجتى بجاذبية سرى علاقة صداقة ممتدة، فقد عرفناها فنانة مرموقة فى ستينيات القرن الماضى، ثم صديقة مقربة فى عقد السبعينيات، كان عهد الثورة وانطلاقها قد مضى وبدأت البلاد مرحلة التراجع والتسوية، لكن جاذبية كانت تؤمن بأن الثورة الحقيقية لا تكمن فى نظام الحكم فتنتهى بزواله، بل تكمن فى صياغة وعى الإنسان، فظلت لوحاتها عبر مختلف العهود تطرح على المتلقى أسئلتها الوجودية: حول الحرية، وكيف يتحول الحلم إلى واقع.

كانت ترى أن الفن نفسه ثورة: ضد التكرار، والنمطية، وضد الصمت وقبول الأمر الواقع، لذلك ظلت تجربتها تحتفظ بتلك الحيوية المدهشة التى تجمع بين الصدق الإنسانى والجرأة التشكيلية.

لقد تركت جاذبية وراءها حين رحلت عن عالمنا قبل أربع سنوات، رصيدا هائلا من الفن الأصيل أشكر «جاليرى الزمالك» أن جمعت لنا بعضه فى هذا المعرض الفريد بمناسبة مئوية ميلادها، لكنها تركت قبل ذلك كله ذاكرة بصرية لثورةٍ مازالت تتنفس فى كل لوحة من لوحاتها.

لم تكن جاذبية سرى فنانة لزمن مضى، بل شاهدة على أن الفن قادر على أن يحفظ وهج اللحظة الثورية فى وجدان الأمة مهما طال الزمن.

فالثورة التى رسمتها لم تكن حدثًا سياسيًا يُحتفل بذكراه كل عام، بل كانت حالة شعورية دائمة، إيمانًا بالإنسان وقدرته على التجدد والبعث من جديد.

هكذا كانت جاذبية سرى، ريشة مصر الثائرة التى لم تخذلها الألوان، فنانة حملت روح الثورة فى قلبها حتى آخر العمر، ففى كل لوحة من لوحاتها نلمح شمس الوطن وهى تشرق من جديد.
 

لمشاهدة معرض الصور على الرابط التالى
https://www.facebook.com/share/p/19uoZ7pWyz/

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية