تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
منذ أن لمعت في مختبرات القرن العشرين شرارةُ المضادات الحيوية، بدا وكأن الطب أمسك بطرف العصا السحرية: دواءٌ يوقف زحف البكتيريا ويختصر دروب الألم والحمى. غير أن كل معجزةٍ تسيءُ البشريةُ استخدامها تفقد بريقها شيئًا فشيئًا. هكذا يتقدم إلينا اليوم شبحٌ علمي له اسم محدد: مقاومة المضادات الحيوية؛ بكتيريا تتعلم، تُعدّل أدواتها، وتنجو. ليست البكتيريا كائناتٍ صماء؛ هي مجتمعات دقيقة تتواصل بلغتها الوراثية. حين تتعرض للمضاد الحيوي، تُغيّر بعضُها شكل الهدف الذي يلتصق به الدواء، أو تُنشئ مضخاتٍ تطرد الجزيء خارج الخلية، أو تُنتج إنزيماتٍ تُفكك تركيب الدواء نفسه. تنجو القلة المتمرسة، ثم تتكاثر، وتورث "وصفة النجاة" لأبنائها. الأدهى أن هذه الوصفة ليست حكرًا على السلالة الواحدة؛ فالبكتيريا تتبادل قطعًا وراثية صغيرة ـ أشبه ببطاقات بريدية مختومة ـ تنتقل بين الأنواع، فتشيع المهارة الجديدة عبر "شبكات" الميكروب اللامرئية. هكذا تتكون سلالاتٌ مقاومة، لا يعود الدواء القديم يفلح معها، ولا يبقى أمام الطبيب سوى خياراتٍ أقل وأغلى وأشد أثرًا جانبيًا.
أين نُخطئ نحن؟
الخطيئة الأولى هي الإفراط وسوء الاستخدام: أن نصفَ مضادًا حيوياًا لعدوى فيروسية كالرشح والإنفلونزا والتهاب الشعب الفيروسي، أو لمعظم حالات السعال، أو نلجأ إليه عند التهاباتٍ لا تحتاجه أصلًا. تناول المضاد في هذه السياقات لا يسرع الشفاء، ولا يحمي المحيطين، لكنه يجهد "بيئة البكتيريا" داخل أجسامنا؛ يقتل النافع والحيادي، ويُبقي من يمتلك حيلةً للمقاومة فيتسيد المشهد.
الخطيئة الثانية هي قطع الطريق قبل نهايته: نتوقف عن العلاج لمجرد أن تخف الأعراض. عندها لا نكون قد أكملنا “الاجتثاث”، فنترك خلفنا بقايا قادرة على العودة بوجهٍ أصلب. كذلك يفضي عدم الالتزام بالجرعات والفترة المحددة إلى انتقاءٍ قاسٍ يُعلّم البكتيريا كيف تعيش تحت وابلٍ متقطع من الدواء.
ولعل أخطر العادات ما يبدو بريئًا: استعمال بواقي المضادات أو مشاركتها مع غيرنا. لكل عدوى سياقها، ولكل جسم تاريخه؛ والدواء الذي نجا من وصفةٍ قديمة لا يعرف الطريق إلى عدوى جديدة، لكنه يعرف كيف يفتح بابًا للمقاومة.
لماذا تبدو المشكلة أشد اليوم؟
لأن السباق تبدل. سنواتٍ طويلةً كان ابتكارُ مضاداتٍ جديدة يسبق طفرات البكتيريا خطوةً أو اثنتين. لكن في العقدين الأخيرين تسارعت وتيرة المقاومة، وقلت الإضافات النوعية في ترسانة الدواء. النتيجة على الأرض واضحة: حالاتُ عدوى أشد تعقيدًا، فتراتُ تعافٍ أطول، زياراتٌ متكررة للمستشفيات، وكُلفةٌ بشريةٌ وماديةٌ أثقل.
العقل الذي نحتاجه: إدارة رشيدة لعُمر الدواء
يسمي الأطباء ذلك إدارة المضادات الحيوية: أن نعيد الانضباط إلى وصف الدواء وصرفه وتناوله. هذه الإدارة ليست شعارًا أخلاقيًا، بل منهجُ بقاءٍ لفاعلية علاجاتنا. وقد مضت مؤسساتٌ طبية كثيرة نحو إرشاداتٍ تُحسن تشخيص العدوى، وتضمن العلاج حين يلزم، وتكف اليد حين لا يلزم - خصوصًا أمام الفيروسات التي لا تعترف بالمضادات أصلًا.
لكن "العقل الرشيد" ليس شأن المستشفيات وحدها؛ هو ثقافة مجتمع. ولكي لا نُرهق معجزتنا أكثر، فهذه بوصلةٌ عملية تجمع العلم والواجب: اطلب النصيحة لا الوصفة. لا تضغط من أجل مضادٍ حيوي؛ اسأل طبيبك عن تدبير الأعراض ومتى تصبح المضادات مبررة. اغسل يديك وكأنك تحمي دواءك. عشرون ثانية بالماء والصابون، وتنظيف الجروح فورًا—تفاصيل صغيرة تقطع سلسلة عدوى كبيرة. تلقَّ التطعيمات الموصى بها. اللقاحات تُقلص الحاجة إلى المضادات من الأصل، وتحمي من عدوى بكتيرية معروفة مثل الخناق والسعال الديكي؛ واستشر قبل السفر. طعامٌ آمن يعني مضاداتٌ أقل. اترك الحليب غير المبستر، واطهِ الطعام لدرجاتٍ داخلية سليمة، واحفظ نظافة المطبخ. التزم جرعتك كأنها عقد. لا توقف العلاج مبكرًا، وأبلغ طبيبك عن أي آثارٍ جانبية بدلًا من أن تعدل خطتك وحدك. لا تستعمل بواقي الدواء ولا تُهدِها. ما نجا من وصفةٍ قديمة ليس "إسعافًا أوليًا"؛ إنه طريقٌ مختصرٌ إلى مقاومةٍ أعند.
درسٌ أخير: تواضعٌ أمام كائنٍ صغير
في المختبر، لا تتصرف البكتيريا كمجرد "عدو" يتلقى الضربات؛ إنها نظامٌ يتعلم. وحين نتصرف بخفة، نكون نحن من يدربه. ليس المطلوب الخوف من المضادات؛ بل حمايتها. فهي ما زالت - حين تُستخدم في موضعها وبجرعتها - تنقذ الأرواح وتقصر طريق الألم. المطلوب أن نتعامل معها كما نتعامل مع الموارد النادرة: بوعيٍ يحفظ فاعليتها للأجيال.
إن مقاومة المضادات ليست قدرًا محتومًا، لكنها نتيجة سلوكٍ يمكن تعديله. ومع كل وصفةٍ دقيقة، وغسلة يدٍ صحيحة، وجرعةٍ مُحكمة، نضيف لبنةً في سد يصد طوفان المقاومة. وهكذا، نستعيد لمعجزة القرن العشرين ما تستحقه من مهابة: دواءٌ يعمل… لأننا نحسن استخدامه.
أستاذ مساعد الميكروبيولوجيا والمناعة، المركز القومي للبحوث عضو منظمة المرأة في العلوم من أجل التنمية – اليونسكو عضو الجمعية الأمريكية للميكروبيولوجيا عضو الجمعية المصرية لسلامة الغذاء
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية