تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
لم تكن تدري «الحاجة رسمية» المُسنة التي تقضي حياتها وحيدة بعيدًا عن أولادها الذين يعيشون خارج البلاد، أن لحظاتها الأخيرة ستكون ثمنًا لـ «طيش مراهق» فشل أهله في تربيته إلى الحد الذي جعله ينزلق في درب المراهنات ويُدمن استخدام التطبيق العالمي الشهير، حتى أنفق كل ما أعطاه له والده، ولما فشل في الحصول على مال جديد لاحت له فكرة الخلاص من جارتهم والحصول على نقودها حتى يستمر اللعب والرهان.
مع دقات عقارب الساعة وهي تقترب من تمام الثانية صباح الأحد الماضي، علا صوت النيران وهي تلتهم بعض أثاث إحدى الشقق السكنية الموجودة في الطابق الخامس من عقار معروف وسط منطقة «السلخانة» في حي السلام التابع لدائرة ونطاق مركز شرطة كفر صقر شمال محافظة الشرقية، قبل أن يصيح أحد الأهالي وهو يشير إلى مصدر الحريق: «دي شقة الحاجة رسمية.. ربنا يستر دي ست طيبة وما شوفناش منها غير كل خير».
كلمات الجار التي خرجت عفوية لخصت سيرة سيدة لم يكن لها من الأمر شيئًا حتى تكون نهايتها كما آلت إليها الأمور؛ إذ تجمع الأهالي بمحيط المنزل، في الوقت الذي حضرت عربات الإطفاء التابعة لقوات الحماية المدنية وتمكنت من السيطرة على الحريق وإخماد النيران التي امتدت لغرف المسكن وشرفته، قبل أن تظهر أولى المفاجآت؛ إذ عُثر على «الحاجة رسمية» غارقة في دمائها وقد فارقت الحياة وطالت جثتها بعض الحروق جراء النيران.
«في الأمر شبهة جنائية».. كلمات مقتضبة دارت داخل عقل رئيس المباحث وهو يتوسط ضباط مركز الشرطة وقوات الحماية المدنية أثناء معاينة المسكن وهو يُطالع جثمان صاحبته وآثار الطعنات المتفرقة في أنحاء جثتها، قبل أن تشير المعاينة الأولية إلى عدم وجود آثار اقتحام في باب المسكن والنوافذ الموجودة، في الوقت الذي عُثر على مبلغ مالي داخل المسكن ملك صاحبته، فيما كان مكان المال يثبت وجود بعثرة خفيفة في الأوراق الأولى من النقود، ما يشير إلى أن مرتكب جناية القتل قد نفذ جريمته ربما بغرض السرقة، لكنه لم يتمالك ثباته الانفعالي إلى الحد الذي مكنه من سرقة جزء من المال فور القتل واللوذ بالفرار.
كشف الجريمة
ساعات مرت حتى انتصف نهار اليوم الجديد، وقرب مغيب الشمس كانت الحقيقة قد تكشفت لرجال البحث الجنائي؛ إذ تبين أن المنزل الذي يحتوي على كاميرات مراقبة في طابقه الأول قد نُزعت منه وحدة تخزين الكاميرات وأتلفت عمدًا، لكن ملكية المسكن الموجود في أول طوابق البيت ربما أجابت عن أسئلة مفصلية، فالبيت ملك أحد الأشخاص المعروفين لأهالي المنطقة، فيما كان الطابق الأول ملك شقيق صاحب البيت، والذي كان يتولى بدوره جمع الإيجار من المستأجرين، بيد أن سيرته استدعت السيرة التي فاحت حول استهتار نجله طالب الثانوية العامة المدعو «محمد» والذي رغم سنواته التي بالكاد أتمت السابعة عشر، ورغم دراسته في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة، إلا أنه عرف مبكرًا طريق السوء ومالت أيامه على درب المراهنات وراح يُدمن خسارة الأموال التي يجمعها من والده من مصروف أو قيمة دروس خصوصية على غاية إدمانه.
السيرة والمعلومات كانت المحرك الرئيسي في تحركات رجال البحث الجنائي لفك طلاسم الجريمة، التي بين تقرير الطب الشرعي بشأن تشريح جثمان المجني عليها فيها أن «القتيلة» طال جسدها ست طعنات نافذة في أنحاء متفرقة من الجسد قبل أن تفارق الحياة على أرضية ردهة مسكنها.
تفاصيل أخرى تضمنتها التحريات بشأن السيدة المجني عليها، والتي تبين أنها كانت مريضة ابتلاها الله بـ «السرطان» ولا يمر أسبوعها دون أن تتلقى جرعاتها في توقيتها الثابت داخل مستشفى الأورام المعروف في بندر مدينة فاقوس، تتكبد مشقة الذهاب والعودة ترافقها شقيقتها بعدما أسهمت الغربة في جعلها وحيدة في حياتها وأبنائها الثلاثة بعيدين عنها، ولد وبنتين استقروا هناك في دول عربية ما بين عمل ومعيشة.
اعترافات القاتل
«قولت لها افتحي عاوز مياه أشرب».. كانت هذه الكلمات بداية اعترافات المتهم «محمد» طالب الثانوية العامة صاحب السبعة عشر ربيعًا فور ضبطه، قبل أن يقف أمام جهات التحقيق ليُدلي باعترافاتٍ تفصيلية؛ مشيرًا إلى أن فكرة الخلاص من المجني عليها «جارتهم» كانت قد اختمرت في ذهنه بعدما ضاق ذرعًا من محاولات الحصول على أموال جديدة تمكنه من استئناف اللعب والرهان عبر تطبيق المراهنات العالمي الشهير، خاصةً وأن والده، والذي يعمل في مجال المقاولات، كان قد اكتشف حيلة ابنه «المتهم» عندما سبق واستولى على مبالغ مالية مملوكة له بطريق السرقة، ما جعل والده وجميع أفراد اسرته يلفظونه بتصرفاتهم التي ترفض أفعاله، فما كان منه إلا التخطيط لقتل وسرقة الجارة الطبية بعدما علم أنها تعيش وحيدة ولديها أموال ربما تروي ظمأه لاستكمال اللعب والرهان من جديد.
ليلة الجريمة، وبعدما أسدل الليل أستاره على المنطقة الشعبية هناك وتخطت الساعة منتصف الليل بحركة واحدة جديدة لـ عقرب الساعات، طرق «محمد» باب السيدة، وحين فتحت له تظاهر أمامها بأنه ظمآن ويرجو كوبًا من الماء: «افتحي يا حاجة وهاتي لي مياه عاوز أشرب»!
استجابت السيدة لطلب الفتي، بيد أن الشيطان الذي التبس عقله كان قد وسوس له بجريمته التي قررها سلفًا، وخلال لحظات دفع السيدة لتسقط أرضًا وهو يحاول الإجهاز عليها ظنًا بأنه سيستطيع أن يكتم أنفاسها، إلا أن ما تبقى لها من طاقة بعد المفاجأة سمح لها بدفعه بعيدًا عنها، ليعود واقفًا على قدميه ويهرول ناحية مطبخ الشقة، وهناك جذب سكينًا وعاد مذعورًا ليضرب السيدة ضربات قتلٍ لست مراتٍ متتالية.
خارت قواها وهي تسقط أرضًا وقد سالت دماؤها من أماكن متفرقة جراء الطعنات، قبل أن تخفت حركاتها وأنفاسها معًا وهي تغمض عينيها مودعةً دنيا عانت فيها كثيرًا قبل رحيلها، فيما كان القاتل يقف متحفزًا ولسان حاله يكاد ينطق موجهًا حديثه إلى ضحيته: «لو اتحركتي تاني السكين موجود»!
لفظت «الحاجة رسمية» أنفاسها الأخيرة، في الوقت الذي ترك خلالها قاتلها سلاحه بجانبها وأخذ يبحث عن المال، وما هي إلا دقائق حتى عرف المكان الذي تحتفظ فيه صاحبة الشقة بأموالها، وفي عُجالة امتدت يداه إلى المال يجمع منه ما يستطيع مدفوعًا بمحاولات الفرار بعدما سمع صوت كلاب المنطقة وهي تعوي كأنما تحث الأهالي على الاستيقاظ لضبطه.
هرول القاتل إلى باب مسرح جريمته من جديد وسط الشقة، وأخرج بعدها قداحة ليُضرم النيران في بعض غرف المسكن وبالقرب من الجثة، ثم أغلق الباب بهدوء لم يعرف له تفسيرًا، وهبط الدرج إلى الطابق المملوك لوالده، وهناك فتح الباب وذهب إلى وحدة التخزين المسئولة عن حفظ ما تلتقطه كاميرات المراقبة الموجودة داخل وخارج المنزل، قبل أن يلوذ بالفرار في الوقت الذي كانت النيران قد اندلعت في مسكن المجني عليها وخرجت من الشرفة ليلاحظها الجيران.
بلاغ رسمي
البداية كانت بتلقي الأجهزة الأمنية في مديرية أمن الشرقية، إخطارًا يفيد بورود بلاغ لـ مركز شرطة كفر صقر بنشوب حريق في إحدى الشقق المستأجرة لربة منزل تدعى «رسمية عبدالله علي» 60 عامًا، بناحية منطقة «السلخانة» وسط حي السلام بدائرة المركز.
على الفور، انتقلت قوات الحماية المدنية إلى موقع البلاغ، وتم الدفع بسيارتي إطفاء تمكنت من السيطرة على الحريق وإخماد النيران، فيما عُثر داخل الشقة على جثة السيدة مستأجرتها وبها عدة طعنات.
تشكل فريق بحث جنائي لكشف غموض وملابسات الجريمة، وعقب تقنين الإجراءات تمكنت أجهزة البحث من تحديد وضبط مرتكب الواقعة، وهو المدعو «محمد ج م ال» 17 عامًا، طالب في الصف الثالث بالمرحلة الثانوية العامة، مقيم في نطاق مركز شرطة كفر صقر، وبمواجهته اعترف بارتكاب الواقعة بقصد السرقة؛ وذلك لاعتياده ممارسة لعبة المراهنات منذ عدة أشهر عبر أحد التطبيقات بمواقع التواصل الاجتماعي، ولخسارته المالية المتعددة سرق مبالغ مالية من والده (يعمل بمجال المقاولات)، قبل أن يشير إلى أنه عقب تضييق الخناق عليه من أسرته بعد اكتشاف أمر سرقته، واستمراره في ممارسة اللعبة وحاجته للأموال، قد اختمرت في ذهنه قتل المجني عليها وسرقتها لعلمه بأنها تقطن في الشقة محل الواقعة بمفردها، حيث دلف إلى شقة المجني عليها وتعدى عليها بالطعن بسلاح أبيض، وعقب تأكده من وفاتها سرق مبلغ مالي قدره 5700 جنيه، وأتلف وحدة تخزين كاميرات المراقبة الموجودة في الطابق الأول من العقار، وأضرم النيران في الشقة محل جناية القتل لمحاولة إخفاء معالم جريمته، قبل أن يرشد المتهم ضبط السلاح الأبيض المستخدم في ارتكاب الواقعة والمبلغ المالي المستولى عليه، وبالعرض على النيابة العامة قررت حبسه على ذمة التحقيق بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية