تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > قائمة الأخبار > الأخبار المسائى : مسلسل «يا غايب»..فضل شاكر.. ذاكرة تغني وتبكي
source icon

الأخبار المسائى

.

زيارة الموقع

مسلسل «يا غايب»..فضل شاكر.. ذاكرة تغني وتبكي

في عالم اعتاد أن ينسى، جاء مسلسل "يا غايب" لا ليذكر فقط، بل لينصف، جاء ليضع اليد على الجرح الذي ظل نازفًا في ذاكرة الفن العربي، وليعيد تشكيل ملامح فنان عشقته الجماهير، لكنه ظل محاصرًا في الزوايا المعتمة من سيرته، محكومًا بالحكايات المنقوصة، والحقائق المشوهة، والإشاعات التي لم تدع له لحظة سلام.

"يا غايب" ليس مجرد سرد لسيرة فنان، بل هو نداءٌ يتردد صداه من أعماق ذاكرة موجوعة، مسلسل يجمع بين الرواية الدرامية والبعد الوثائقي، بين الأداء التمثيلي المرهف ومشاهد حية من حفلاته التي ألهبت الجماهير، في توليفة نادرة تمزج بين الحضور والغياب، بين الصوت الذي طالما صدح، والصمت الذي فرضه الرحيل القسري عن الضوء.

منذ اللحظة الأولى، يشعرك المسلسل أنك لا تتابع قصة فنان، بل تتوغل في دهاليز إنسان هش، مجروح، لم يكن الغناء بالنسبة له مجدًا فقط، بل أيضًا سببا في القضاء عليه، تبدأ الرحلة من الطفولة الموجعة، من اليتم الذي طال قلبه رغم وجود والديه، من العوز العاطفي والمادي، ومن نظرات شكٍّ لمجتمع لم يفتح له أبواب الرحمة كما فتح له لاحقًا مسارح التصفيق.

تُضاء بداياته بشحوب، كما لو أن الكاميرا تعتذر عن كشف هذا القدر من الألم، وتُظهره في لحظات الانكسار الأولى حين كان يبحث عن نبرة صوته وسط ضجيج القسوة، وعن شغفه بين أنقاض الرفض. لكن الموهبة، حين تكون فطرية كوهج النار، لا تنطفئ، بل تتحدّى الريح. فها هو يتسلل إلى المسارح الصغيرة، يتعلّم من التعب، ويتشرّب من الصبر، حتى يصبح الصوت الذي يرافق ذاكرة اللبنانيين والعرب في لحظاتهم الخاصة، في الحب، في الفقد، في الحنين.

المسلسل لا يجمّل سيرة بطله، بل يُواجهها. يسائلها بصدق، يفتح ملفاتها المؤلمة، ويغوص في المناطق الرمادية التي لطالما أسالت الحبر وأشعلت الجدل.

وتحديدًا، يتوقف مطولًا عند الاتهامات التي لاحقته بانضمامه لجماعات مسلّحة ضد جيش بلده. هنا لا يكتفي المسلسل بالنفي، بل يقدّم سياقًا إنسانيًا وسياسيًا متماسكًا، ليكشف صورة ضبابية لم يُنصفه أحد بمحاولة تصويبها.

تُروى هذه المرحلة بشيء من الحذر، لكن أيضًا بوضوح مؤلم، إذ يُظهر العمل كيف حوصر الفنان بين نداء الانتماء وواقع الحرب، بين صدق المشاعر وخطيئة التوقيت. ويؤكّد المسلسل أن ما ظنه البعض انحيازًا، كان في حقيقته اندفاعًا إنسانيًا تجاه مشاهد القتل والدمار، وصرخة ألم في وجه عالم يتفرج.

ثم تأتي لحظة المفصل. لحظة التوقّف. حين انكسر صوته الداخلي أمام مجازر لا تنتهي، وصور الأطفال المذبوحين، والمنازل المحترقة، والقلوب المفجوعة. لم يعد الغناء حينها فعلًا مبهجًا، بل صار عبئًا. وصار الصعود إلى المسرح خيانة للدموع التي لا تجفّ في المخيّمات. فاختار الانسحاب، لا لأنه كره الفن، بل لأنه لم يعُد يطيق أن يقدّم الفرح في زمن الحداد.

قرار الاعتزال الذي اتخذه لم يكن ترفًا، بل كان تمزقًا داخليًا. وفي واحدة من أقوى مشاهد المسلسل، يُجسّد لحظة خروجه الأخير من المسرح، كأنها طقس وداع لجمهورٍ أحبه، لكنه لم يعُد قادرًا على إسعاده. يقول بعينيه قبل لسانه: "أخاف أن أغني وأنتم تنزفون".

يعتمد المسلسل في سرده على أسلوب لا يخلو من الشعرية، لا من حيث اللغة فقط، بل من خلال الإيقاع والبنية. كل حلقة أشبه بصفحة من مذكرات مؤجّلة، تُقرأ بصوت باح، بنظرة متعبة، بموسيقى تحاول أن تمسح على الوجع بدل أن تثيره. مشاهد الحفلات المستقطعة لا تُستخدم لمجرد التوثيق، بل تُوظّف لتُذكّرنا بأن هذا الصوت كان هنا، وأننا كنّا نحبه، وأن الغياب ليس نسيانًا، بل فجيعة.

التمثيل في العمل، يوظف بعناية، فأداء المراحل العمرية المختلفة لبطله ويجسدها ثلاثة ممثلين في مراحله المختلفة من طفولة، وصبا، وشباب ونضج، لا يذهب إلى التقليد، بل إلى الاستحضار. لا يسعى إلى محاكاة الشكل الخارجي، بل إلى الإمساك بالنبض الداخلي، بالشكوك، بالانكسارات، بالدهشة المتكررة من تقلبات العالم، وبالمفارقة بين صخب المسرح وصمت الوحدة.

"يا غايب" لا يكتفي بأن يكون عملًا فنيًا، بل هو وثيقة روحية. يرسم لنا المسافة بين النجومية والخذلان، بين القمة والوحدة، بين جمهورٍ يصفق وصوتٍ يختنق. وهو تذكير جارح بأن كثيرين ممن صنعوا وجداننا، حملوا أوجاعهم بصمت، ودُفنوا أحياء في ذاكرة الناس بسبب خطأ لم يرتكبوه، أو موقفٍ أسيء فهمه، أو فقط لأنهم صمتوا حين كان يُطلب منهم الكلام.

في زمن تتسابق فيه الدراما على افتعال القصص، يأتي هذا العمل ليقول الحقيقة. لا الحقيقة المطلقة، بل تلك التي يُمسكها الإنسان بيده المرتجفة. ليقول إن الفنان ليس معصومًا، لكنه أيضًا ليس جدارًا تُعلق عليه خطايا غيره. ليؤكّد أن من حق الفنان أن يحزن، وأن يتألم، وأن يختار الصمت، وأن يقول "لا" حين يعجز عن قول "نعم".

"يا غايب: فضل شاكر" هو مسلسل وثائقي درامي لبناني، تدور أحداثه حول حياة السيرة الذاتية للمطرب اللبناني فضل شاكر، إخراج فاطمة راتشا شحادة، تأليف نور المجبر وإنتاج رودولف جبر، يجمع الوثائقي بين مشاهد تمثيلية وشهادات واقعية يرويها فضل شاكر بنفسه.. وبمشاركة ستيفاني عطالله، عماد عزمي، سميرة الأسير، طلال الجردي، دارينا الجندي.

 

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية