تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
روحانية الست!
تهادى إلى مسمعى أغنية فى الإذاعة نقول; «فاكراك ومش هنساك مهما الزمن قساك، ولانسيت حبى، وإن رحت مرة تزور عش الهوا المهجور، سلم على قلبى، دا أنا قلبى لسه هناك ويا الأمل سهران»!
اندهشت كيف لم أسمع أم كلثوم تغنى هذه الأغنية من قبل!
فاكتشفت أن هذه الأغنية الرائعة ليست لها، ولكن لنجاة على، التى تضارع أم كلثوم فى الجمال والقدرة على الأداء والتمكن والصنعة!.
وعندما صارحت عتاولة الفن فى فرقة الموسيقى العربية بذلك، قالوا سيزيد اندهاشك لو سمعت (فتحية أحمد) مطربة القطرين، التى كانت تتفوق على أم كلثوم فى التلوين الغنائى، بينما كانت أم كلثوم تلتزم باللحن، وهى التى عاصرتها من الولادة حتى الوفاة!.
فكيف وصلت أم كلثوم إلى هذه المكانة الفنية الرفيعة وسبقت أندادها المتميزين؟!
بل هناك من فاقها فى حلاوة الصوت والصنعة مثل (منيرة المهدية) حسب رأى الملحن العبقرى (رياض السنباطى)، بينما أصبحت أم كلثوم بلا جدال سيدة سيدات العرب!.
أعتقد أن غازلة المشاعر ثومة، سرها فى تكوين الشخصية، فكانت لديها شخصية عقلانية قوية للغاية، فاستثمرت موهبتها من خلال تطور الشخصية الذاتية التى لم تقف عند حد نهائى، فكلما وصلت لذروة تطلعت لأخرى،
فعملت على ثقافتها تستوعب الحياة والناس، وفهمت أن الإنسان ما هو إلا مجموعة من العواطف التى تتحكم فيه، فانكبت على الأشعار تفهم وتتذوق معناها ومغزاها وجمالياتها، فامتلكت البصيرة الروحية لتعبر عن شعائر القلب، فقفزت من أغنية الخلاعة والدلاعة مذهبى، إلى أشعار كبار الشعراء عباقرة المعنى والمضمون ورهافة الإحساس، مثل أبى فراس الحمدانى ومحمد إقبال وأحمد شوقى وإبراهيم ناجى وغيرهم لتحيى دررهم المدفونة فى بطون الكتب إلى خيال العامة، لينطلقوا فى رحاب المطلق اللانهائى، فى مثلث القيمة الأفلاطونى الخالد حيث الحق والخير والجمال!.
العقل الواعى لها تشبث بعباقرة زمانها من الملحنين الثلاثة الكبار محمد القصبجى وزكريا أحمد ورياض السنباطى، وحملت بأمانة ومقدرة ألحانهم بصوتها فرفعوها إلى القمة، ولم تكتف بالمكانة فى أى مرحلة فروحها المطلقة لا تقف عند حد، وحرصت على امتصاص المواهب الشابة مثل محمد الموجى و بليغ حمدى وأيضا محمد عبدالوهاب لتجدد مساراتها الروحية وتصل لأعمار شابة استقطبتهم حول صوتها، ليتحقق معيار الخير الذى اتفق عليه معظم الفلاسفة وهو المتعة لأكبر عدد من الناس!.
لم تنظر إلى فنها باعتباره تسلية وترفا ولكن كرسالة مقدسة، بل لها دور فى إصلاح الحياة الاجتماعية، بما يفعله تناسق النغم من تناسق القلوب وترتيب الانفعالات وإصلاح النفوس وتهذيبها، مما يمهد للتواصل الاجتماعى والاحترام اللازم لتوطيد الأواصر ودوامها، وقد استخدم منذ القدم الحكيم الصينى (كونفوشيوس) الموسيقى فى علاج الأمراض النفسية واعتبرها لا تعكس النفس البشرية فقط، بل النظام الكونى كله!.
شخصية (ثومة) حاصل جمع كل الاستعدادات النفسية والروحية والميول والقوى البيولوجية لها، مع الذاكرة الجمعية للثقافة العامة والإمكانات الفنية البارزة لعصرها، فتحولت إلى ظاهرة اجتماعية لا تعبر عن نفسها فقط، ولكن عن عصر بأكمله وعن القيم الإنسانية المشتركة.
عندما سألوا (فتحية أحمد) عن سر تفوق ثومة عليها، قالت: ذكاؤها وعلاقاتها الاجتماعية، وربما يكون ذلك صحيحا، فهى كانت ما يطلق عليه بالمثقف العضوى، اندمجت فى المجتمع لتعطى وتأخذ أفضل مافيه، واستفادت من مثقفيه لتحلق بروحها فى سماء المعرفة لتعزف على أوتار النفس العاطفية بفهم وعمق، وتعبر عن مكنون الحب فى كل صوره، حتى الألم وضعته فى موضعه الصحيح لتحوله إلى شجن ممتع يريح القلب ويشفيه!.
كان الراحل الكبير (مرسى عطا الله) كلما رآها فى وسائل الإعلام يتساءل كيف تموت ومازال لها كل هذا التأثير، حتى بعد وفاتها بـ 50 عاما، فمازالت حية فاعلة، فهؤلاء الكبار نفذوا بروحهم نحو الخلود بتحليقهم فى رحاب المعانى المثالية المطلقة المفطور عليها البشر!.
جمهور أم كلثوم تحول إلى كيان له مواصفات وقناعات «Cult» كطائفة لاتذهب لحضور أغنية، ولكن لحضرة الست، كأنها إلهة للمعنى من آلهة الإغريق، حيث الطرافة والاستطراد والتفرد والقدرة والرزانة والاحترام والفهم،
وكما راعت المضمون، اعتبرت الشكل امتدادا له، ومن التلفح بالعباءة السوداء الرداء الريفى البسيط، إلى الأزياء الراقيه لأكبر المصممين العالميين، فأناقتها احتراما لجمهورها ليراها فى احسن صورة، كذلك حرصت أن يتم تصوير حفلاتها من زاوية بعيدة أو متوسطة، حتى تكتمل صورة الست فى الخيال،
فأطلقوا عليها «الست» بما تحمله من معانى المرأة الكاملة فى خيال المريدين الهائم، فى معانى القوة مع اللطف والذكاء مع النعومة والجمال الباطنى يجسده الذوق الخارجى، فى عالم المثل الروحانى، فأخذتهم بثالوث المعانى المعبر، اللحن والكلمات والأداء، إلى النيرفانا، حيث الشعور بالذات وأحلامها وآلامها، وكذلك الشعور بالمشاركة الوجدانية مع الآخرين بالاتحاد الجمعى على روحانية الست، فعاشوا الانفصال، حيث الشعور بالنفس والشعور بالحرية، والملاشاة حيث التأثر بالآخرين والتوحد والاتفاق معهم، وفقا لفلسفه سارتر الوجودية!.
ادعى عالم النفس الأمريكى (دونكان ماكدوجال) أن وزن الروح «21 جم» بعد وزن الأجسام قبل وبعد الوفاة، ولو ذلك صحيحا فكم يكون وزن روح الست؟! أم كانت كلها روحا تعيش بيننا تحلق بنا فى عالم المثال والخيال والخير الأسمى، وتضيف إلى حياتنا حياة على حياة، ولذلك فهى لم تمت كما رأى الراحل الكبير مرس عطا الله!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية