تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حرم مرسى عطا الله
قد كنت أوثر أن تقول رثائى يامنصف الموتى من الأحياء/ لكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منية بقضاء.
لم أجد أقدر من فصاحة أمير الشعراء (أحمد شوقي) لتعيننى على إلحاح الأهل والأصدقاء لأكتب عن الجوانب الإنسانية الخفية مع شريك العمر الأستاذ المعلم والقائد والمناضل الذى يشرفنى أن أكون زوجته وأفتخر بأننى حرم مرســى عطا الله!.
فقد كنت أوثر أن يقول رثائى لأنه الأقدر والأكرم فكان «يكسو بمدحه الكرام جلاله.. ويشيع الموتى بحسن ثناء» وشاءت الاقدار أن أشيعه بقلب مفجوع ونفس بائسة يائسة!
كان لشريك العمر مظهر متحفظ تكسو الجدية ملامحه، والاقتضاب والإيجاز فى تعاملاته، حتى هيئته كانت كلاسيكية دقيقة الهندام، فكان يعتبر حسن الملبس والمظهر من فضائل الأخلاق واحترام للناس، ولكن هذا الوعاء الخارجى كان يحمل داخله قلبا مرهفا يزخر بالعواطف الجياشة، والحساسية الشديدة للمعانى الانسانية الجليلة، التى تدور حول «التعاطف» مع من حوله الضعفاء، وكذلك الأقوياء الذين تتبدل عليهم الأيام، فكل من عرفه مجرد معرفة سطحية بعيدة، أحس أن له ظهرا يستند إليه، وإن لم يفعل له شيئا، إلا أن الله جعل له نورا من نوره أمامه، ومن سلطان بهائه على وجهه حتى إذا رأيناه شعرنا بالراحة والأمان،مع رجل لايخشى فى الحق لومة لائم،
ونذكر ما خطه الأستاذ الراحل «سمير صبحي» فى مذكراته عن أحداث خروج الأستاذ «محمد حسنين هيكل» من الأهرام، بعد عزله من منصبه، والجزع الذى أصاب الجميع من التقرب من الأستاذ الذى تحدى رأس الدولة، بينما «مرسى عطاالله» الوحيد الذى رافقه عند خروجه وصاحبه حتى وصوله لمنزله، ولم يفكر فى مكسب أو خسارة، ولكن فقط «التعاطف» مع أستاذه ومعلمه، وبقى على صلة وثيقة به، حتى أن الأستاذ الأديب الراحل «يوسف السباعي» قال له ناصحا: يا ابنى أنت هكذا تصادر مستقبلك!
عواطف «مرسى عطاالله» أحس بها الجميع، عندما تولى المسئولية فى إدارة الأهرام فى إحقاق الحق، وإكرام الناس مع احترام قيمة العمل، كقيمة إنسانية يحتاجها الناس للتقدير الذاتي، فكانوا يعملون ويربحون، فساد مناخ من الثقة والاحترام، فاستطاع أن ينجز ماهو معروف من إنجازات وأرباح، ما هو غنى عن البيان، بفضل توجيه العواطف بنور العقل والحكمة والوقار، والمثابرة، وطول النفس التى قد يفتقر إليها الأذكياء.. فتضيع مواهبهم!
نفس العواطف العميقة هى ما مكنته من إنشاء جريدة «الأهرام المسائى» بين ليلة وضحاها، بعد مفاجأة غزو العراق للكويت لمتابعة الأحداث، وبعد أن كانت مجرد مرحلة وقتية، استمرت الجريدة لتخرج نخبة من المواهب التى أتيحت لهم الفرصة على يد مرسى عطا الله مانح الفرص للنجباء «خلقت فى الدنيا بيانا خالدا،. وتركت أجيالا من الأبناء».
شبت عواطف «مرسى عطاالله» مع ثورة يوليو والطموحات الكبيرة للنهوض بمكانة مصر فى المنطقة والعالم، وتعلق مثل ملايين العرب بالزعيم الخالد «جمال عبدالناصر» ومشروعه على طريق التقدم بالتعليم والعمل، والإنتاج، وتثقيف الناس وتغيير عاداتهم القديمة المتخلفة، فلم يكن يراه ديكتاتورا متسلطا، ولكن زعيما معلما، يناسب البلاد فى تلك المرحلة من التطور، لكن ذلك لم يعق ملكة النقد عنده للزعيم الذى استسلم لعواطفه السلبية وسلم الجيش لغير أهله، من الخبراء المؤهلين لقيادته، فكانت الهزيمة المروعة فى «67» ومع قسوتها إلا أن «انتماءه لمبادئ ثورة يوليو جزء من انتمائه لوطنه،
وتطورت عواطف «مرسى عطا الله» من المثاليات المطلقة إلى «فن الممكن» وكان رغم صغر سنه شريكا فى نصر أكتوبر كمساعد للمتحدث العسكرى من غرفة العلميات، وكان معتزا بهذا النصر الذى مثل صلابة معدن الشعب المصري، عندما يقوده أهل الخبرة، والإنجاز، وأصبح على مدى 50 عاما «جبرتي» نصر أكتوبر، الذى يروى أحداث وقائع هذا النصر العظيم للوطن، والعروبة، وكان يستعد لإصدار كتاب عن هذا النصر، وطلب منه الأستاذ (أحمد أبو الغيط) أمين عام الجامعة العربية، أن يكتب له المقدمة! لكن القدر لم يسعفه ليكتب الجوانب الانسانية للقادة الذين عرفهم شخصيا، ويمثلون روعة «شخصية مصر» كالبطل الشهيد إبراهيم الرفاعى وغيره! «فرتب الشجاعة فى الرجال جلائل/ وأجلهن شجاعة الآراء».
شجاعة الآراء عند «مرسى عطاالله» لم تكن تهورا أو عبثا مثاليا، ولكن بالتبصر بحدود القوة وتوقع نتائج الأفعال، لا البحث عن المغامرات الشعبوية التى ترضى غرائز العامة، وتعود على البلاد بالخراب، كما حصل فى العديد مع الدول العربية، فكانت كتاباته تدعم الدولة لا الأشخاص، ويحذر من دعوات التمرد والفوضى التى تقوض الدولة، لا الأشخاص، فلا ينظر إلا للوطن ومايجرى له، أما الأشخاص فهم لا محالة زائلون، ويبقى الوطن، فكانت هذه رسالته التى آمن بها قطاع عريض من الناس الذين جعلوه «الأكثر قراءة فى جريدة الأهرام» على مدى سنوات طويلة، استناذا إلى تاريخه الطويل من العمل الوطنى والسمعة الطيبة!
كان حريصا على سمعته إلى حد الوسوسة القهرية، فكان يحرم علينا الخروج فى الاحتفالات أو حتى الأماكن العامة، إلا فيما ندر، حتى لايتقول علينا الناس وينسب لنا ما ليس فينا، ويعامل الناس بحذر قد يظنه البعض غرورا، ولكنه فى حقيقة الأمر ـ يا للعجب ـ خجل! فمن يرى طلاقة لسانه فى أحاديثه التليفزيونية، وحسن بيانه فى الكتابة، لايتصور أبدا الخجل الداخلى العميق داخله، من آراء الناس وتصوراتهم عنه،
وكان يتعجب من انتشار الفحش والبذاءة فى الخطاب العام، فكيف يرضى الانسان على نفسه الدناءة،! ويحذر من السكوت على هذه الظاهرة اجتماعيا وقانونيا، فى خلق اجيال تتمثل هذا السلوك المشين من البلطجة الفكرية، ولاتعرف الحياء، مما يقوض المجتمع والدولة بلا مبالغة، فكان بالفعل «قلم جرى الحقب الطوال فما جرى يوما بفاحشة ولا بهجاء».
«القدوة هى النصيحة» كانت مقولته المفضلة فكان فى حياته الخاصة مع أبنائه قدوة، وفى عمله قدوة، فلم تمسك عليه زلة، حتى خصومه يعترفون له بذلك،
وهو لم يسع للخصومه مع أحد إطلاقا، لكن نجاحه فى تحقيق طموحاته العملية فى السياسة والصحافة والرياضة يولّد بالطبيعة أحقادا ومنافسين وطامعين، لا حيلة له معهم إلا التسامح، ولايحمل فى «قلبه بغضا» أبدا لأى منهم، بل حمى بعضهم مقاومة لغريزة الانتقام، ولم يظلمه أحد أو افترى عليه إلا وانتقم له الله المنتقم الجبار، دون تدخل منه، بل جريرة تجرؤه على ولى من أولياء الله الصالحين!.
انه ولى بالعمل لا بالذكر والدروشة، ويشهد على ذلك د. «جمال عبدالله» المدير الأسبق للمركز الطبى بالأهرام الذى اكتشف بالفحوصات الطبية وجود أورام خبيثة بالقولون لدى الأستاذ مرسى عطاالله، وكان رئيسا للمؤسسة فذهب جزعا له بضرورة السفر للخارج، للاطمئنان على صحته من هذا المرض الخطير، إلا أنه رفض، لانه كان يحضر الميزانية ويرتب للناس الحوافز والأرباح، ويدبر متطلبات مسئولياته فى نهاية عام 2008، وكان غارقا فى المشاكل التى عليه حلها، فقال له سأتعالج فى مصر، ولن أسافر ويقينى بالله يقيني! وقد وقاه الله!.
كذلك يشهد الأستاذ «عبدالمحسن سلامة» عندما عرض عليه تحمل تكاليف علاجه من عامين عندما تعرض لوعكة صحية، دخل فيها الإنعاش لمدة اسبوع فرفض العرض، وشكره قائلا : «مســتورة» ! لا داعى لتحميل أى أعباء منى على المؤسسة!
أما عن علاقتنا الزوجية فأشهد له أمام الله والناس بحسن معشره وإتقائه الله فىّ وفى أولاده فكان حنونا عطوفا كطبعه، وقبل زواجنا حذره البعض منى خوفا من غروري، حتى أهلى حذروه اننى حبيبة أبيها المدللة التى لاتجيد شيئا من أعمال المنزل، إلا أنه لم يلق بالا لجميع التحذيرات وغمرنى بعواطفه النبيلة، فكان جزاؤه منى التفانى فى خدمته، واعتبرته ابنى «الأكبر» وكان يكيل لى المديح من حسن أخلاقه، قائلا: لقد تحملت معى 40 عاما من الشقاء، وما الحياة إلا كفاح ودار ابتلاء لكن أجمل ما فيها أن تتوج بالمحبة، لقد حببنى فى ذاتى ومكننى من الحرية لأكون نفسى حتى أدمنته! فنمت علاقتنا من علاقة زوجية إلى علاقة روحية، فلا تهنأ لنا إقامة إلا سويا حتى أصبحنا شخصا واحدا مكتملا ومصيبة رحيله المدوى، شقت كيانى شقا ولايعزينى إلا قوله إن قصة حبنا من العشق الإلهى يكتبها الله للموعودين!
كان رمزا مجسدا لكل القيم، من العواطف الانسانية والوطنية، ولا أقول إلا ما قاله أمير الشعراء:
«انظر فأنت كأمس شأنك باذخ فى الشرق واسمك أرفع الأسماء/ وغدا سيذكر الزمان ولم يزل للدهر إنصاف وحسن جزاء».
قبل وفاته كتبت عن «القلب المكسور» بهجر وخيانة أحد الأطراف للآخر، لم أتوقع أن أصبح ذات قلب مفجوع برحيله المفاجئ فى أحلى صورة وأجمل هندام ليموت بلا مرض وينال الشهادة بموته غريبا.. استأذن فى إجازة من الكتابة ليأخذ قلبى حقه من الحزن بعد أن أصبح لا معنى للحياة ولا لذة فيها من بعده!.
كفى بك داء أن ترى «الموت» شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية