تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > والى دولاتي > المتحف الكبير والاقتصاد الثقافى

المتحف الكبير والاقتصاد الثقافى

ليس المتحف المصرى الكبير مشروعًا ثقافيًا أو حدثًا احتفاليًا فحسب، بل هو فى جوهره استثمارٌ استراتيجى فى الذاكرة الوطنية، ونموذجٌ مثالى لتوظيف التراث كأصل انتاجى ذى عائدٍ مستدام، لا كمجرد إرثٍ رمزى أو مَعلمٍ سياحى فقط. فحين يُفتتح رسميا اليوم: الأول من نوفمبر، تكون مصر قد دشّنت ليس فقط اكبر متحف لحضارة واحدة فى العالم، بل أيضًا أحد النماذج المعاصرة لتحويل التاريخ إلى رأسمال معرفى وثقافى يولّد الدخل ويُرسّخ الهوية معًا.

لقد طال انتظار هذا المشروع منذ أن طُرحت فكرته قبل أكثر من ثلاثة عقود، لكنه اكتمل فى اللحظة الاقتصادية الأنسب. ففى عالمٍ تتجه فيه الاقتصادات المتقدمة نحو تنويع محركات النمو بعيدا عن الصناعات التقليدية والموارد الطبيعية، برزت الثقافة والإبداع كقطاعٍ اقتصادى قائم على المعرفة ورأس المال الفكري، ضمن ما يُعرف اليوم بـ«الاقتصاد الثقافي».

وتشير تقديرات اليونسكو إلى أن هذا القطاع يولّد أكثر من 2.3 تريليون دولار سنويًا، أى ما يعادل 3.1% من الناتج العالمي، ويوفّر ما يزيد على 30 مليون وظيفة مباشرة. كما يوضح البنك الدولى أن كل دولار يُستثمر فى الصناعات الثقافية يولّد ما بين 1.5 إلى 2 دولار فى قطاعات مساندة كالسياحة والتعليم والخدمات، ما يعكس أثره المضاعف فى دورة الدخل والناتج المحلي.

يقف المتحف الكبير على مساحة نصف مليون متر مربع، ويضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون، إضافة إلى مركز لترميم الآثار يُعد الأكبر فى الشرق الأوسط. غير أن جوهر تفرّده لا يكمن فى حجمه أو هندسته البديعة، بل فى اقتصاده الجديد القائم على إدارة الذاكرة لا استهلاكها، وعلى خلق القيمة من «التجربة» لا من السلعة.

فهو يربط المعرفة بالاستدامة، ويحول الهوية إلى منتجٍ قابل للتصدير عبر التعليم والسياحة الثقافية والفعاليات الدولية وبرامج البحث والتوثيق، ليصبح مؤسسة إنتاجية للمعرفة وليست مجرد حافظة للتراث.

وفى الدراسات الاقتصادية الحديثة نسبيا، يُصنَّف هذا النموذج ضمن ما يُعرف بـ«اقتصاد التجربة»، حيث تتفوّق القيمة المدركة «للتجربة» على القيمة المادية للمنتج.

والمتحف الكبير يجسّد هذه الفلسفة عبر منظومةٍ اقتصادية متكاملة لتوليد العائد من كل زيارة أو معرضٍ مؤقت، بما يخلق «تجربةً» ذات جدوى مالية وسياحية فى آنٍ واحد. فـ«التجربة» نفسها تتحوّل إلى سلعةٍ اقتصادية عالية القيمة تتنوّع من خلالها مصادر الدخل بين التذاكر والرعاية والحقوق التجارية والتراخيص الثقافية، فضلًا عن أثرها غير المباشر على منظومة السياحة والفندقة والترفيه فى القاهرة الكبري. وبهذا المنظور، تصبح كل قطعةٍ أثرية أصلًا ماليًا غير قابل للإهلاك، تتجدد قيمتها مع كل إعادة عرض أو سرد جديد، إذ يعاد إنتاج التاريخ معرفيا واقتصاديا بصورة مستدامة.

اقتصاديًا، يمثل المتحف الكبير نموذجًا متقدّمًا فى التمويل الثقافى المبتكر والاستفادة من آليات السوق الدولية.

فقد جرى تمويله عبر مزيجٍ من القروض والمنح والاستثمارات اليابانية والمصرية، فى تجربةٍ تُعدّ من نماذج «الدبلوماسية الثقافية»، التى تفتح مسارات جديدة للعلاقات الاقتصادية الدولية وتربط القوة الناعمة بالتنمية المستدامة.

وإذا ما دُمج المتحف ضمن رؤية اقتصادية متكاملة لتطوير منطقة الأهرامات تشمل فنادق ومراكز مؤتمرات ومؤسسات بحثية ومناطق ضيافة متنوعة فسيتحوّل إلى نواة لمنظومة ثقافية–سياحية–اقتصادية قادرة على إيجاد آلاف الوظائف وتحفيز سلاسل القيمة المحلية. فالمنطقة تمتلك من الرمزية والقدرات ما يجعلها مؤهلة لأن تكون أحد أهم محركات النمو السياحى والاستثمارى فى مصر.

وفى التجارب العالمية، تشير الأرقام إلى أن متحف اللوفر فى باريس يحقق أكثر من 3 مليارات يورو سنويًا كعائد مباشر وغير مباشر، فيما تسهم المتاحف البريطانية بأكثر من 1% من الناتج المحلى للندن، أى نحو 2.6 مليار جنيهٍ استرلينى سنويًا.

إن نقل التجربة إلى مصر ليس حلمًا بعيدًا، بل رؤية اقتصادية قابلة للتحقق، إذا ما أُدير المتحف بعقلية السوق ومنطق صناعة التجربة فى المنطقة المحيطة، لا بمنطق المزار الأثرى فقط.

على مستوى آخر ، يطرح المتحف الكبير سؤالًا يتجاوز الاقتصاد: هل يمكن للأمم أن تبنى مستقبلها من ماضيها؟

فى حالة مصر، الإجابة ليست فقط نعم، بل إنها ضرورة تنموية. فالحضارة المصرية لم تُنتج الفن والعمارة فحسب، بل قدّمت للعالم فكرة الخلود نفسها, إن القيمة حين تُؤسّس على المعنى تتجاوز الزمن. والمتحف الكبير هو التجسيد المادى لهذه الفكرة: كيف يمكن للماضى أن يظلّ منتجًا، وللأثر أن يتحوّل إلى أصلٍ معرفى ومالى يدر الدخل ويحفّز الإبداع.

إن المتحف الكبير ليس استثمارًا فى الحجر، بل فى الوعى الجمعى والذاكرة القومية. إنه يغيّر علاقتنا بالتاريخ من كونه حكاية تروى إلى كونه أصلًا يُدار بمنطق السوق ورافدًا للناتج القومي.

فالقوة الثقافية اليوم ليست ترفًا حضاريًا، بل مكوّنا أساسيا فى اقتصادات العواصم الكبرى مثل لندن وباريس وروما وسول التى جعلت من متاحفها ومعارضها بنية للإنتاج لا للعرض فقط.

وحين يُضاء المتحف الكبير فى ليل القاهرة، لن تبرق الحجارة فقط، بل ستتوهّج فكرةٌ مستنيرة: أن الأمم التى تُحسن إدارة تراثها لا تكتفى بتوريث مجدها، بل تحوّله إلى طاقة إنتاجية ومعرفية، وأن الذاكرة حين تُدار كأصل اقتصادى تصبح محركًا للتنمية ومصدرًا للثروة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية