تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > نشأت الديهي > نظرية اللحاف المقلوب.. لماذا لا يصنع التغيير الشكلى دفئًا؟

نظرية اللحاف المقلوب.. لماذا لا يصنع التغيير الشكلى دفئًا؟

هناك أفكار بسيطة، شديدة البداهة، لكنها تحمل فى داخلها قدرة هائلة على تفسير ما نعجز أحيانًا عن فهمه فى السياسة والمجتمع والعلاقات الدولية. من بين هذه الأفكار ما يمكن تسميته بـ»نظرية اللحاف المقلوب».

الفكرة فى جوهرها شديدة الوضوح: إذا شعرت بالبرد رغم أنك مغطّى باللحاف، فلا تحاول قلب اللحاف نفسه بحثًا عن مزيد من الدفء. مقاسه هو ذاته، ثقوبه لم تتغير، ووزنه لم يزد. الوجه الآخر لا يحمل معجزة خفية. إن أردت الدفء الحقيقي، فأنت بحاجة إلى لحاف أكبر، أو أثقل، أو إلى إضافة لحاف جديد من الأساس.

>>>

هذه القاعدة البسيطة، إذا سحبناها على واقعنا السياسى والاجتماعي، سنجدها تفسر كثيرًا من الإخفاقات المتكررة التى نُصرّ على تكرارها، ثم نتعجب من النتيجة ذاتها. نحن، فى أغلب الأحيان، نُجرى تغييرات شكلية وننتظر نتائج جوهرية، نقلب اللحاف نفسه ونُصدم بأن البرد لا يزال حاضرًا.

>>>

فى السياسة الداخلية، تتجلى نظرية اللحاف المقلوب بوضوح فاضح. نغيّر الوجوه، لكننا نحتفظ بالأفكار نفسها. نبدّل أسماء المؤسسات، بينما تبقى السلوكيات كما هي. نعيد تدوير الخطاب ذاته بصياغات مختلفة، وننتظر تحسنًا فى الأداء أو ثقة فى النتائج. لكن اللحاف هو نفسه: المقاس ضيق، والثقوب موجودة، والبرد مستمر. التغيير الحقيقى لا يكون بتدوير الأشخاص داخل الإطار ذاته، بل بإعادة النظر فى الإطار نفسه، فى الفلسفة الحاكمة، وفى طريقة التفكير قبل طريقة الإدارة.

>>>

فى المجال الإداري، نرى المؤسسات تعلن عن «هيكلة جديدة» أو «إستراتيجية محدثة»، بينما جوهر القرار وآلية التنفيذ والعقل الذى يدير المنظومة لم يتغير. مجرد قلب للحاف، لا أكثر. نفس البيروقراطية، نفس الخوف من القرار، نفس تقديس الشكل على حساب الجوهر. ثم نتساءل: لماذا لا نشعر بالدفء؟ لأننا ببساطة لم نُضف لحافًا جديدًا، ولم نُصلح الثقوب القديمة.

>>>

حتى فى العلاقات الإنسانية، تعمل نظرية اللحاف  المقلوب بلا رحمة. كثيرون يغيرون أسماء العلاقات، أو يبدّلون مواقعهم فيها، بينما تبقى أنماط السلوك نفسها. نفس التجاهل، نفس الأنانية، نفس سوء الفهم، ثم يتوقعون دفئًا عاطفيًا مختلفًا. لا دفء دون تغيير حقيقى فى السلوك، ولا أمان دون معالجة الأسباب لا مظهرها.

>>>

أما فى العلاقات الدولية، فالصورة أكثر تعقيدًا، لكنها أوضح لمن يريد أن يرى. الدول كثيرًا ما تقلب لحاف تحالفاتها بدلاً من أن تعيد تقييمه. تغيّر الخطاب الدبلوماسي، أو الوجوه السياسية، بينما تظل المصالح مختلة، وموازين القوة غير عادلة، وأسس العلاقة مثقوبة. ثم تُصاب بالدهشة عندما تكتشف أن البرودة لا تزال قائمة، وأن «الشراكة الإستراتيجية» لم تمنحها الدفء الموعود.

>>>

العلاقات بين الدول، مثل الألحفة، تحتاج وزناً مناسباً وعدالة فى التوزيع وخلواً من الثقوب. حين تكون العلاقة قائمة على الابتزاز، أو الازدواجية، أو المصالح أحادية الاتجاه، فلن يجدى قلبها نفعًا. تغيير الشعارات لا يُصلح اختلال الميزان، وتبديل المصطلحات لا يعالج خلل الثقة.

>>>

المشكلة الحقيقية أن كثيرًا من الأنظمة والنخب تعشق الحلول السهلة، لأنها أقل تكلفة سياسيًا وأسرع فى التسويق الإعلامي. قلب اللحاف أسهل من حياكة لحاف جديد. تغيير الوجوه أقل كلفة من تغيير الأفكار. تبديل الأسماء أسهل من مراجعة المسارات. لكن الثمن يُدفع لاحقًا، حين يتراكم البرد ويتحول إلى سخط، أو فقدان ثقة، أو انفجار مؤجل.

>>>

نظرية اللحاف المقلوب تُذكّرنا بحقيقة قاسية: لا يمكن خداع الواقع طويلاً. الواقع لا يهتم بالشعارات، ولا ينخدع بالمكياج السياسي. إما أن تُغيّر الوزن الحقيقى للأشياء، أو تستمر فى الارتجاف. إما أن تُضيف لحافًا جديدًا من أفكار وسياسات وسلوكيات مختلفة، أو تظل تدور فى الحلقة نفسها.

>>>

وفى النهاية، الدفء ليس وهمًا نفسيًا ولا نتيجة خداع ذاتي، بل حصيلة اختيارات صحيحة. ومن يُصرّ على قلب اللحاف نفسه، فعليه أن يتقبل حقيقة واحدة: البرد ليس مؤامرة، بل نتيجة منطقية.

>>>

ولهذا، فإن أخطر ما فى «نظرية اللحاف المقلوب» ليس الجهل بها، بل تجاهلها عمدًا. أن تعرف أن اللحاف لا يدفئ، ثم تُصرّ على قلبه كل ليلة، وتلوم الطقس، أو تتهم الآخرين بالبرودة، أو تفتعل عدوًا وهميًا يبرر فشلك. هذه ليست سذاجة، بل هروب من مواجهة الحقيقة. الحقيقة التى تقول إن المشكلة لم تكن يومًا فى الاتجاه، بل فى الحجم والوزن وجودة النسيج.

>>>

الدول التى تنجح لا تخشى استبدال الألحفة القديمة، حتى لو اعتادت عليها طويلاً. لا تتعلق بالأسماء ولا تقدّس الأشخاص ولا تُصاب بالهلع من تغيير الأدوات. تدرك أن الدفء السياسى والاجتماعى لا يُصنع بالترقيع، بل بإعادة التصميم. أما الدول التى تفشل، فهى تلك التى تخلط بين الاستقرار والجمود، وبين الحكمة والخوف من التغيير.

>>>

وفى عالم اليوم، حيث تتسارع التحولات وتزداد البرودة فى العلاقات والمصالح، لم يعد مقبولاً الاكتفاء بقلب اللحاف. لا فى السياسة، ولا فى الاقتصاد، ولا فى الإعلام، ولا حتى فى الوعى العام. من لا يملك لحافًا مناسبًا لهذا العصر، سيتجمد خارج التاريخ، مهما ادعى أنه مازال مغطّي.

>>>

الدفء قرار، وليس خدعة.

والتغيير الحقيقى لا يبدأ من الوجه الآخر للحاف، بل من الاعتراف بأن هذا اللحاف لم يعد صالحًا أصلاً.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية