تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

لغتنا الذهبية


اللغة العربية لم تكن أبدا كائنًا هشًّا يحتاج إلى من يربّت على كتفه، بل هى لغة صلبة، ساخرة، مقاتلة، تعرف كيف تضحك وهى تمسك بالسيف. ومن يظن أن تاريخها الحديث كان هادئًا رزينًا، لم يطالع معارك أدبائها فى القرن العشرين؛ تلك المعارك التى كانت تُدار بالجملة، وتُحسم بالتشبيه، ويُراق فيها حبرٌ لو قُدّر له أن يكون دمًا لملء الصحف.

>>>

فى ذلك الزمن، لم يكن الخلاف اللغوى نقاشًا أكاديميًا باردًا، بل اشتباك مباشر، وكان فى طليعة فرسانه مصطفى صادق الرافعي، الرجل الذى آمن أن العربية ليست وسيلة تعبير فقط، بل هوية كاملة، وأن التفريط فى أسلوبها هو بداية التفريط فى الذات.

>>>

دخل الرافعى معظم معاركه وهو يعلم أنه سيخرج منها خاسر الأصدقاء، لكنه لم يكن معنيًا بذلك؛ فقد كان يرى نفسه حارسًا على بوابة اللغة. ومن هنا جاءت معركته الأشهر مع الدكتور طه حسين، وهى معركة لا تخلو من الطرافة بقدر ما لا تخلو من القسوة.

>>>

بدأت القصة حين نشر الرافعى كتابه «تاريخ آداب العرب» سنة 1912، فكتب طه حسين مقالًا ساخرًا قال فيه إنه لم يفهم من الكتاب حرفًا واحدًا، وأنه يدعو إلى الجمود والتخلف. كان ذلك كافيًا لإشعال النيران. ردّ الرافعى لم يكن علميًا جافًا، بل لغوى ساخر، فوصف أسلوب طه حسين بأنه ركيك، مكرر، وقال عبارته الشهيرة التى دخلت تاريخ الطرائف الأدبية: «إنه يمضغ الكلام مضغًا».

>>>

لم يسكت طه حسين، وانتظر صدور «رسائل الأحزان»، ثم هاجمها بهجوم ساخر بالغ الذكاء، فقال إن الرافعى يتكلف المشقة فى الكتابة تكلفًا، وإن كل جملة من جمل كتابه توحى للقارئ بأن الكاتب يولدها ولادةً عسيرة، ويعانى فى إخراجها كما تعانى الأم آلام الوضع! وأضاف – منصفًا كما قال – أنك قد تجد جملة جميلة، ومعنى نافعًا، لكن المشكلة الحقيقية هى أن تصل هذه الجمل ببعضها لتقول شيئًا مفهومًا.

>>>

كانت هذه المعركة نموذجًا لعبقرية العربية: لغة تستطيع أن تتحول فيها الإهانة إلى صورة بلاغية، والسخرية إلى درس فى الأسلوب.

>>>

أما الرافعي، فكان رجلًا لا يعرف التراجع. كتب سلسلة مقالات فى مجلة السياسة، وراهن طه حسين علنًا أن يكتب مثل «رسائل الأحزان» فى سنتين إن استطاع، وقال له متحديًا:

«لقد نبغتَ فى الخيال بعد أن قرأتَ كتابي، وستنبغ أكثر بعد أن تقرأ السحاب الأحمر، أفأنت تقوم لى فى باب الاستعارة والمجاز؟!»

>>>

ولم تكن هذه الروح مقصورة على الرافعى وحده؛ فالعقاد – على سبيل المثال – كان يرى أن طه حسين يكتب بعقل أوروبى فى جسد عربي، بينما كان طه حسين يرى أن خصومه يكتبون بعاطفة الماضى وهم أسرى التراث. ومع ذلك، فإن هؤلاء جميعًا، على اختلافهم، صنعوا عصرًا ذهبيًا للغة العربية، لأنها كانت حاضرة فى القلب من معاركهم، لا هامشًا فيها.

>>>

فى يوم اللغة العربية، لا نحتفل بلغةٍ صامتة، ولابقواعد جامدة، بل نحتفل بلغةٍ ضحكت، وسخرت، وتشاجرت، ودافعت عن نفسها بأقلام أبنائها. نحتفل بلغةٍ كانت سلاحًا، وكانت فنًا، وكانت موقفًا.

>>>

تلك هى لغتنا الذهبية:

لغةٌ إذا غضبت أبدعت، وإذا سخرت أدهشت، وإذا دافع عنها أبناؤها اختلفوا.. لكنهم اتفقوا – من حيث لا يدرون – على أنها تستحق أن تُقاتَل من أجلها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية