تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > نشأت الديهي > صدمة الديون.. بين الخوف المشروع والضرورة الاقتصادية

صدمة الديون.. بين الخوف المشروع والضرورة الاقتصادية

 تحولت قضية الديون والاستدانة فى مصر خلال السنوات الأخيرة إلى ساحة نقاش عام محتدم، تجاوز حدود التحليل الاقتصادى الهادئ، ليصل إلى حالة من الاستقطاب المجتمعى الواضح..

يمكن رصد هذا الاستقطاب فى انقسام غير معلن للمجتمع إلى أربع جبهات: جبهة تدافع بضراوة عن سياسات الاقتراض، وأخرى تهاجمها بضراوة أشد، وثالثة مترددة تتأرجح بين الفريقين، تؤيد هذا اليوم وتندد غدًا، بينما تقف الجبهة الرابعة موقف اللامبالاة، مكتفية بعبارة شهيرة: «أنا مالى».

>>>

لكن الحقيقة أن قضية الديون ليست مسألة عابرة فى الوعى المصرى، بل تلامس وجدانًا تاريخيًا حساسًا.. فالمصريون، بطبيعتهم وتاريخهم، يمقتون الديون والاستدانة، ويتعاملون معها باعتبارها عبئًا نفسيًا واجتماعيًا قبل أن تكون التزامًا ماليًا. ويكفى أن نستحضر الأمثال الشعبية التى صاغها الوعى الجمعى عبر قرون: «السلف تلف والرد خسارة» و«هم بالليل وذل بالنهار» أو الحكمة المنسوبة إلى لقمان حين قال: «نقلت الحديد وحملت الصخر فلم أرَ شيئًا أثقل من الدين».

هذه الأمثال ليست مجرد كلمات، بل انعكاس لتجارب تاريخية مؤلمة، أبرزها عهد الخديوى إسماعيل، حين غرقت مصر فى دوامات الديون وانتهى الأمر بتقويض سيادتها المالية.

>>>

من هذا المنطلق، يبدو القلق من تزايد الدين، لا سيما الخارجى، قلقًا مشروعًا، بل واجبًا وطنيًا فى نظر كثيرين. فى المقابل، يقف المدافعون عن سياسة التوسع فى الاقتراض من منطلق لا يقل وطنية، معتبرين أن القروض أداة اقتصادية طبيعية تستخدمها الدول لتمويل التنمية وسد فجوات التمويل، خاصة فى فترات التحول الكبرى أو الأزمات العالمية. وبين الفريقين، لا يمكن اختزال النقاش فى ثنائية التخوين أو التبرير المطلق، فكل طرف ينظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، ويحركه فى جوهره الخوف على الوطن.

>>>

ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من الصراخ، بل نحتاج «شارحًا ماهرًا وأمينًا» يقدم للمجتمع كشف حساب واضحًا وشفافًا. كشف حساب يجيب عن أسئلة جوهرية: ما حجم القروض التى حصلت عليها الدولة؟ ما دوافع اللجوء إليها؟ وفيما استُخدمت تحديدًا؟ وما العائد الاقتصادى والاجتماعى منها؟ وهل كانت هناك بدائل أخرى متاحة؟ ثم، وهو الأهم، ما العوائد المتوقعة من هذه الاستخدامات فى الحاضر والمستقبل؟ وكيف يمكن تحجيم الاقتراض تدريجيًا، مع وضع خطط معلنة لسداد الديون القائمة؟

>>>

إن اطلاع الرأى العام على هذه التفاصيل ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة لبناء الثقة. فالحكومات المتعاقبة، بحكم مسئوليتها، من حقها اتخاذ الإجراءات التى تراها ضرورية وفق رؤيتها وقدرتها، لكن من واجبها فى المقابل شرح مبررات هذه القرارات، وتوضيح «حالات الضرورة» التى دفعتها إلى الاستدانة.. الشفافية هنا لا تضعف الدولة، بل تعزز موقفها وتمنح المجتمع قدرة على الفهم والتقييم بعيدًا عن الشائعات والمزايدات.

>>>

اليوم، يبلغ الدين الخارجى لمصر نحو 161 مليار دولار، وهو رقم يراه البعض مقلقًا إلى حد الخطورة، بينما يراه آخرون فى إطار النسب والمؤشرات العالمية رقمًا يمكن إدارته. وعند مقارنة مصر بدول مثل تركيا أو المغرب أو جنوب إفريقيا، تتضح صورة أكثر تعقيدًا، تؤكد أن العبرة ليست فقط بحجم الدين، بل بقدرة الاقتصاد على خدمته، وبطبيعة استخداماته، وبمعدل النمو والعائد الإنتاجى.

>>>

فى النهاية، تبقى قضية الديون مسألة وطنية بامتياز، لا تحتمل التلاسن أو المكايدات السياسية والانتخابية. المطلوب هو إعلاء المصلحة العليا للبلاد، وإدارة حوار عقلانى قائم على الأرقام والحقائق، لا على الانطباعات والمخاوف وحدها. فبين الخوف المشروع والضرورة الاقتصادية، هناك مساحة واسعة للعقل والحكمة، وهى المساحة التى يجب أن نقف فيها جميعا.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية