تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الدب الروسي والقارة العجوز
القارة العجوز تعيش اليوم هواجسها القديمة وكوابيسها التاريخية من جديد فالدب الروسي يقف على الأبواب يلوح بقوته العسكرية يبعث برسائله الصاخبة عبر المناورات المشتركة مع بيلاروسيا ويثير الرعب في رومانيا وبولندا ودول البلطيق أوروبا التي ظنت أن الحرب في أوكرانيا ستبقى حبيسة الحدود الشرقية، اكتشفت أن نيرانها تقترب شيئا فشيئا من العواصم الأوروبية، وأن شبح الحرب لم يعد بعيدا عن أبواب برلين ووارسو وفيلنيوس وريغا وتالين.
الناتو تحرك مسرعا ليطلق ما أسماه عملية حارس الشرق وكان الغرب يريد أن يضع سدا من الفولاذ في مواجهة زحف روسي محتمل لكن الحقيقة أن هذه العملية لا تعكس سوى القلق الأوروبي المتزايد، خوفا من أن يتجاوز الروس أوكرانيا نحو قلب أوروبا. فالمسيرات الروسية التي وصلت أجواء رومانيا وبولندا لم تكن مجرد اختراق عرضي، بل رسالة متعمدة تقول إن حدودكم ليست آمنة كما تتوهمون، وإن موسكو قادرة على أن تلمسكم في عمقكم الإستراتيجي متى شاءت.
روسيا من جانبها تنفى كل هذه المخاوف وتؤكد أنها لا تحمل أطماعا في القارة الأوروبية، وأنها لا تريد احتلال بولندا أو اجتياح رومانيا أو ابتلاع البلطيق. كل ما في الأمر كما تقول موسكو هو تأمين حدودها من تمدد الناتو شرقا، ورفض سياسة الطوق الغربي التي تحاصرها بالقواعد والمنظومات الصاروخية. لكن هل يصدق الأوروبيون هذه الرواية الحقيقة أن أوروبا لا تقرأ الأقوال بل تراقب الأفعال والأفعال الروسية كانت أفزع من أى خطاب. فالمناورات العسكرية التي أجرتها روسيا مع بيلاروسيا لم تكن عادية، كانت الأكبر والأكثر استفزازا واستخدمت فيها محاكاة لهجمات إستراتيجية جعلت العواصم الأوروبية ترتعد من الخوف.
الأكثر غرابة أن تقارير تحدثت عن وجود عناصر أمريكية داخل هذه المناورات، وكأن واشنطن نفسها تشارك في لعبة الألغاز الكبري. الولايات المتحدة التي تدفع الناتو المواجهة روسيا، هي نفسها التي تقترب من موسكو في بعض الملفات لا حبا فيها، وإنما لرغبة دفينة في إحداث وقيعة بين روسيا والحلف الأطلسي، واشنطن تعلم أن روسيا إذا ما انزلقت كليا إلى أحضان الصين، فإن العالم سيشهد ثنائيا مرعبا يهدد الهيمنة الأمريكية، ولذلك تسعى بكل الطرق لجز موسكو بعيدا عن بكين حتى لو كان الثمن إثارة القلق الأوروبي.
إنها لعبة الشطرنج الدولية التي تدور فوق جغرافيا متوترة، حيث تتحرك القطع بخبث وتضحى بالجنود والفيلة والحصون في انتظار كش ملك لم يعرف العالم بعد من الذي سينطقها. أوروبا اليوم ليست في موقع اللاعب بل في موقع الميدان أرضها قد تتحول إلى ساحة مواجهة جديدة بين القوى الكبري، وهي ترى المشهد يتكرر روسيا من الشرق أمريكا من الغرب، والأوروبيون مجرد بيادق خائفة تتلقى الضربات.
المخاوف تتزايد هل نحن أمام مقدمات حرب عالمية ثالثة تندلع شرارتها من رومانيا أو بولندا أو البلطيق؟ أم أننا أمام مخطط الحروب إقليمية مرسومة بعناية الهدف منها إعادة رسم خريطة العالم وتوزيع مناطق النفوذ من جديد المشهد يوحى بالاحتمالين معا. فكل طرف يلوح بالقوة، وكل طرف يريد فرض قواعد اللعبة، وأي خطأ صغير أو حادث عرضى قد يفجر الوضع كله، ويدفع العالم إلى مواجهة لا تحمد عقباها.
الدب الروسي يقترب أكثر فأكثر، والقارة العجوز تتراجع إلى الخلف مذعورة من ماضيها قبل حاضرها أوروبا تعرف أن روسيا حين تتحرك لا تتوقف بسهولة، وأن ما يجرى فى أوكرانيا قد يكون بداية وليس نهاية. أما الناتو فيدرك أن اختبار مصداقيته الحقيقي ليس في كييف بل في وارسو وفيلنيوس وريغا، فهناك سيتحدد ما إذا كان الحلف قادرا على الدفاع عن أعضائه، أم أنه مجرد واجهة سياسية تنهار عند أول مواجهة حقيقية.
وسط هذا كله تظل الحقيقة المرة أن أوروبا، رغم كل خطابها عن الوحدة والقوة تعيش حالة هشاشة غير مسبوقة، اقتصادها مرهق شعوبها قلقة، وقيادتها السياسية منقسمة. وبينما تحاول برلين وباريس أن ترسم سياسة أوروبية موحدة تظل واشنطن هي اللاعب الذي يملك مفاتيح القرار، تدفع بهذا وتضغط على ذاك، وتدير الخوف الأوروبي كأنه ورقة ضغط دائمة لتضمن أن يظل القارة العجوز تابعة للبيت الأبيض لا قادرة على الاستقلال بقرارها.
الدب الروسي يتقدم ببطء ولكن بثبات يحمل في يده عصا المناورات العسكرية، وفي الأخرى ورقة الغاز والطاقة التي لا تستطيع أوروبا الاستغناء عنها بسهولة. أما الأوروبيون فيبحثون عن طوق نجاة فلا يجدون إلا حضن الناتو، ولا يملكون إلا رفع الصوت بالتحذير والدعوة للردع. وهكذا يتحول المشهد كله إلى دائرة مغلقة من الشك والخوف والتوجس قد تنفجر في أي لحظة، وقد تبقى نارا تحت الرماد إلى حين.
إن ما يجرى اليوم ليس مجرد تحركات عسكرية أو مناورات حدودية بل هو صراع على مستقبل العالم. هل سيبقى النظام الدولي بزعامة أمريكا وحلف الناتو؟ أم أن روسيا ومعها الصين في الأفق ستنجح في كسر هذا النظام وفرض معادلة جديدة؟ لا أحد يملك الإجابة الحاسمة الآن لكن المؤكد أن القارة العجوز لم تعد كما كانت وأنها تعيش أخطر أيامها منذ الحرب العالمية الثانية. وبين الدب الروسى المتحفز، والبيت الأبيض الماكر، وحلف الأطلسي المرتبك قد نجد أنفسنا أمام مشهد يعيد رسم الخرائط، ويغير موازين القوي وربما يفتح الباب الصراع لا حدود له.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية