تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

صرخة في ليل الأُبُوَّة

على حافة الزمن تجلس الأُبُوَّة، تلتقط أنفاسها بين مطرقة الحياة وسندان المسؤولية.
ينهض الأب كل صباح مثقلاً بعبء الأيام، يسابق الوقت ليؤمّن قوت أسرته، ويعود آخر النهار منهك الجسد، مثقل القلب، فيجد أبناءه غارقين في عوالم لا يعرفها، عوالم من الضوء الملوّن و الشاشات الصامتة التي تخطف العقول وتُبدّل القِيَم.

لم تعد الأُبُوَّة كما كانت؛ كانت يومًا حضورًا ودفئًا، صارت اليوم محاولةً يائسة للإمساك بما يتفلّت من بين الأصابع.

الأب الذي كان يربي أبناءه بالكلمة والنظرة والقدوة، صار اليوم ينافس خوارزميات لا تنام،

كان يحلم أن يكون حاضرًا في تفاصيل أبنائه كما كان أبوه يومًا، أن يربت على كتفهم في المذاكرة، أن يشاركهم ضحكة عفوية حول مائدةٍ بسيطة، لكن الواقع تغيّر؛ صار الأبناء غرباء في بيتٍ واحد، تتصل أرواحهم بالعالم ولا تتصل بقلب أبيهم.

يرى في أعينهم انبهارًا بما يُعرض عليهم، يخاف أن يخطفهم هذا البريق الخادع، ولا يدري كيف يحارب جيشًا من الشاشات وحده.

لا يملك أمام انبهارهم المقيت إلا أن يُحدِّق في السماء كأنه يفتِّش عن نجدةٍ مُعلَّقة بين السماء والأرض، وقلبه وروحه يستغيثان ربَّه: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

إنها حيرة كل رجلٍ يريد أن يكون أبًا صالحًا في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم، وتحوّل فيه النجاح إلى أرقام، والحرية إلى انفلات، والتطور إلى انفصامٍ عن الجذور.

الأب الذي وَهَبَ عُمُرَه لدفع الجوع عن فلذات كبده، يدفع أبناؤه ثمنًا باهظًا هو يعرفه جيدًا، بينما هم لا يشعرون: غيابه الروحي عن حياتهم.

هو بلا شكٍّ يسعى لسد جوع أجسادهم، لكن من يسد جوع أرواحهم؟ من يغرس في تربة قلوبهم البِكر معنى الحياء والصدق والرحمة؟

إنها مأساة العصر: أن نُجاهد لنعيش، فنخسر الذين نعيش من أجلهم..

يا لحيرته حين يريد أن ينصحهم، فيجد بينه وبينهم فجوةً من لغةٍ لا تُشبهه..

إنه يتساءل في حزن: أين ذاك الزمن الذي كانت فيه الكلمة من الأب دستورًا؟!

يا لانكساره حين يراهم ينامون على ضوء الشاشات لا على دفء الحكايات..

إنه يردد في ألم: أين سَكِينة الجلسة العائلية حين كان القلب يسمع قبل الأُذن؟

هم يعيشون في عالمٍ يعجّ بالمؤثرين والرموز المصنوعة، عالمٍ يُعيد تعريف الفضيلة وفق "الترند"، وينحر الحياء باسم الحرية. والأب المسكين لا يريد أن يكون خصمًا، بل ملاذًا، لكنه يكتشف أن صوته بات همسًا في ضجيجٍ لا ينتهي.

لقد سرقت ضغوطات الحياة من الآباء قلوبهم قبل أوقاتهم، حتى غَدَوْا يقدّمون لأولادهم كل شيء إلا حقيقة الأُبُوَّة ومعناها وقدسيتها.

في ليل الأُبُوَّة الطويل، يجلس الآباء على أرصفة الهم، يتساءلون في صمتٍ موجع:

هل أخطأنا حين ظننا أنَّ كدَّنا وتعبنا هو كل ما لأبنائنا من حقٍّ علينا؟

هل نحن مَن اخترنا أم أننا أُجْبِرنا على ذلك إجبارا؟

هل أصبحت الهواتف بديلًا لنا في تربية أبنائنا؟

ما جدوى أن نكدّ ونتعب لتأمين متطلبات حاضرهم، في حين تعبث الشاشات بالقِيَم والمُثُل التي كنا نعدُّها ذُخرنا الحقيقي الباقي لتأمين مستقبلهم؟
وما قيمة تأمين الحاضر – إن استطعنا إلى ذلك سبيلا – إذا كان المستقبل يُسْرَق جهارًا نهارًا أمام أعيننا؟
وا رحمتاه لكل أب تأكله الحيرة: أيهما أولى؟ أن يترك عمله ليحرس أرواح أبنائه، أم يتركهم ليؤمّن لهم خبز الغد؟
كِلا الطريقين موتٌ مؤجَّل، وأيًّا ما اختار فهو الخاسر الوحيد..
أيّ ألمٍ أشدّ من أن يكون الأب ممزّقًا بين قوت يومهم وقوت قلوبهم؟ بين الجوع الذي يهدد أجسادهم، والانفلات الذي يهدد أرواحهم؟ إنه صراعٌ لا يُرى، لكنه يفتك بقلوب الآباء، فبينما هو يكدح ليطعم أجسادهم، ينسج العالم خيوطه حول أرواحهم ليُطعمها أفكارًا مسمومة.
يا الله! ما أقسى أن يُمتحن الحب بهذا الشكل، أن يكون الأب مضطرًا أن يختار بين جوع أبنائه وبين ضياع قيمهم!
كم يشتهي لحظة طمأنينةٍ يرى فيها أبناءه كما أراد — أطهارًا، أبرياء، لا تلوّثهم صور الشاشات ولا نداءات الزيف.
إنها صرخةٌ في ليلٍ طويل، صرخة كل أبٍ يرى أبناءه يبتعدون خطوةً خطوة، ويرى نفسه عاجزًا أمام انكسار القلوب بعد أن كان حارسًا لها، ذلك العجز الذي فرضه عليه زمنٌ لا يرحم.
آهٍ يا ليل الأُبُوَّة، كم فيك من وجعٍ لا يُقال، وكم من قلوبٍ تتألم ولا تشتكي، خوفًا على من تحبّ أكثر من نفسها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية