تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
عملية خالية من الألم!
شدنى عنوان رائع لمقال نشره «أمبروز إيفانز- بريتشارد» فى جريدة الجارديان البريطانية قبل أيام: ستستمر أمريكا فى إنفاق الأموال مثل بحار مخمور حتى يتوقف العالم عن تمويلها، ثم فسره بعبارة أشد قسوة (اقتراض واشنطن غير الخاضع للرقابة هو دليل على مجتمع منحط فقد كل الانضباط الذاتي)!
ويتحدث المقال عن ركود اقتصادي، وعجز فى الميزانية الفيدرالية يعادل 8% من الناتج المحلى الإجمالى البالغ فى العام المنصرم 28 تريليون دولار تقريبا، وديون 35 تريليون دولار فى يوليو الماضي، وزيادة فى معدل البطالة، واضطراب فى سعر الفائدة ..الخ.
وينتهى إيفانز- بريتشارد إلى رأي: يوجد كثير من الخراب فى أمة عظيمة، لكن لا يوجد بلد أو تكتل آخر قادر حتى الآن على تأمين نظام العملة والائتمان الدولي، ولا توجد عملة أخرى جاهزة لتحل محل الدولار، سيتعين علينا جميعا العيش مع هيمنة «مخمور» يُنفق بإسفاف، ولن ينعدل حاله إلا إذا توقف العالم عن تمويله!
باختصار المقال تحليل اقتصادى لأزمة أمريكية حالية، دون أن يتطرق إلى الأسباب السياسية والأدوار التى تلعبها أمريكا فى صراعات متفرقة فى العالم، وإذا كان الاقتصاد قادرا على تأسيس إمبراطورية عظمى، فالسياسة يمكن أن تتحول إلى عوامل تعرية تضرب أعمدة الاقتصاد.
مثلا فى الوقت الذى تستلف فيه أمريكا تريليون دولار كل 100 يوم، تخصص 14 مليار دولار مساعدات لإسرائيل فى حربها الإجرامية ضد الفلسطينيين فى غزة والضفة، و61 مليار دولار لأوكرانيا فى حربها الدفاعية ضد روسيا، وهى التى حرضت ودبرت الظروف التى دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا، حربا استباقية تمنع أوكرانيا من فتح حدودها أمام حلف الناتو، والحرب لاستنزاف طاقات روسيا ومواردها، لاسيما أن حلفاء أمريكا الأوروبيين يتحملون معها التكاليف الدموية!
بالقطع الولايات المتحدة هى أكبر اقتصاد على كوكب الأرض، ثروات طبيعية وافرة، وأيضا أكثر دول العالم تقدما فى العلوم والتكنولوجيا، وهى خلاف الإمبراطوريات القديمة ذات الموارد المحدودة، التى سعت إلى نهب ثروات الشعوب الأخرى وثقافتها، كالإغريق والرومان وبقية الأوروبيين الغربيين، أى لم تكن فى حاجة إلى فرض الهيمنة بالقوة المسلحة، وقد امتلكت أدوات ثقافية نافذة، كالسينما والموسيقى والغناء والأزياء والطعام وتكنولوجيا المعلومات، مكنتها أن تصبح جزءا من التكوين النفسى لثلاثة أرباع سكان الكوكب.
لكن القوة المسلحة هى المطرقة الحديدية الأكثر نفوذا وسيطرة فى النظام العالمي، مما يتيح لها تنفيذ استراتيجيات مراكز القوة المالية والمعنوية فى المجتمع الأمريكى (كارتيل السلاح والمصارف والسيارات والأدوية والتكنولوجيا والإعلام والترفيه)، وهى مصادر لها تأثير فعال بنسب متفاوتة فى البيت الأبيض والمؤسسة العسكرية (البنتاجون) والكونجرس والمخابرات المركزية ووزارة الخارجية. كان الأمريكيون يتمسكون بالعيش داخل قارتهم الغنية بعيدا عن صراعات العالم فى القارات القديمة، صحيح أن شركة نفط من كاليفورنيا حفرت بئرا نفطية فى الظهران بالسعودية فى عام 1938، لكنه كان طموحا فرديا، ولهذا اكتفت الحكومة الأمريكية فى السنوات الثلاث الأولى من الحرب العالمية الثانية بدعم الحلفاء لوجيستيا، لكن مراكز صناعة القرار رأت أن دخول الحرب مهمة حتمية، من أجل الدور الذى يتطلعون إليه، وكان الهجوم اليابانى على بيرل هاربر هو «بطاقة» موافقة الشعب على إرسال القوات الأمريكية إلى أوروبا.
وفعلا حلت أمريكا محل الاستعمار التقليدى فى مقعد الرئاسة وقبعت بريطانيا وفرنسا فى مقاعد التابعين. مع سقوط برلين ثم تفتيت الاتحاد السوفيتى فى التسعينيات، بلغت الهيمنة الأمريكية ذروتها عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا.
تحديدا يوجد 173 ألف جندى أمريكى فى 750 قاعدة منتشرة فى 80 دولة حول العالم، منهم 115 ألفا يتمركزون فى اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، و30 ألفا فى إسرائيل ودول الخليج والعراق وسوريا والأردن. وبالطبع يزيد عدد القواعد الأمريكية على عدد القواعد العسكرية الخارجية لكل الدول الكبرى غربية وشرقية مجتمعة بما فيها روسيا والصين، حسب إحصاءات منشورة فى يونيو 2023. وعموما يقترب الإنفاق العسكرى الأمريكى سنويا من 40 % من كل الميزانيات العسكرية فى دول العالم، وهو يعادل ثلاثة أضعاف ما تنفقه الصين، وأكثر مما تنفقه الدول العشر التالية لها مجتمعة. على سبيل المثال صرفت الولايات المتحدة من أكتوبر 2001 إلى سبتمبر 2020 ما يزيد على 6.4 تريليون دولار على الحرب فى أفغانستان والعراق وسوريا!
مؤكد أن جيل زد فى أمريكا يعلم هذه الحقائق ويكاد يُجن من حجمها، خاصة وهو يتوجع من مشكلات كثيرة مثل فقدان الوظائف، ضعف نظام التأمين الصحي، المشردين فى شوارع المدن الكبرى وتحت الكباري..الخ، ولا تهتم بها الإدارة الأمريكية وتطلب من الكونجرس اعتمادات إضافية بعشرات المليارات من الدولارات، دعما للحرب فى أوكرانيا وغزة، ومن هنا يمكن أن نفهم أسباب مظاهرات الجيل الجديد ضد الحرب، بل ورفضهم التجنيد فى الجيش الأمريكي، كما قالت مجلة نيوزويك فى تحقيق لها على موقعها الإلكتروني: إن غالبية الأمريكيين فى سن الخدمة العسكرية ليسوا على استعداد للالتحاق بالجيش، إذا دخلت الولايات المتحدة فى حرب كبرى، ففى العام الماضى فشلت القوات الجوية الأمريكية فى الحصول على خدمات عشرة آلاف مجند كانت تحتاج إليهم، وقل عدد المنضمين إلى البحرية بنحو 6000 شخص عن العدد المطلوب..الخ.
ناهيك عن انتشار الانقسامات والصراعات والاتجاهات الشعبوية واليمينية المتطرفة.
يقول الدكتور حسن كانبولات الأستاذ بجامعة إسطنبول فى دراسة عن أحوال أمريكا الآن ونشرها فى 2022 تحت عنوان (نهاية الإمبراطورية الأمريكية والولادة المؤلمة للنظام العالمى الجديد): إن نهاية الإمبراطوريات نادرا ما تكون عملية خالية من الألم!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية