تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
سلام يا ست!
ونحن صبية حتى مدارج الشباب كان عبد الحليم حافظ هو أيقونتنا، شريك حياتنا فى كل صغيرة وكبيرة، يصاحبنا فى الدراسة ويطير فى الهواء مصفقا مهللا «مالقيت فرحان فى الدنيا زى الفرحان بنجاحه»، يلازمنا كدقات قلوبنا فى أحاديث الحب والشوق والهمس والعيون مرشدا وناصحا: «خايف مرة أحب، حبك نار، أنا لك على طول»، يجسد مشاعرنا الوطنية المتوترة البريئة «أحلف بسماها وترابها، عدى النهار»، لم نكن نميل إلى «الست»، والست هى كوكب الشرق أم كلثوم، كنا نرى غناها «حصاد تجارب عميقة»، بينما نحن زهور تتفتح على أول الطريق، فإذا «سابت» حبيبها للزمن، فنحن لم نتعرف بعد على هذا الزمن الذى يؤدب من أساء إلى الحب، ما لنا ومال «هجرتك يمكن أنسى هواك» قبل أن نحب فعلا.
كنا نقرأ عن عظمة صوت الست وإمكاناته وطبقاته وقدرتها الفائقة على الانتقال بين المقامات بنعومة وجمال خاص بها ونفهم، لكن عند السمع نجرى على عبد الحليم ومحمد فوزى وليلى مراد وفيروز وشادية وفايزة ونجاة ومحمد رشدي، إيقاع سريع وغناء أبسط وكلمات قريبة من أعمارنا..
ثم جاءت أغنيات الست مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب كأول محطة نتوقف عندها، قبل أن تشدنا وتمتلكنا قصيدة الأطلال، التى أراها درة الغناء العربى بأكمله، صحيح أن الأحكام المطلقة خطيئة كبرى، لكن من منا بلا أخطاء، هذه القصيدة هى السر الذى فتح أمامنا عالم «أم كلثوم» السحرى، القلب يعشق كل جميل، حيرت قلبى معاك، عودت عيني، هو صحيح الهوى غلاب..الخ.
وبالرغم من مرور 48 عاما على رحيل سيدة الغناء العربي، لم نفقد الشغف ولا الولع بها، ولا يدهشنا أن تعشقها أجيال جديدة تتزاحم على حفلاتها بالهولوجرام، ويتمايلون على صوتها كأنها نبض حي.
ما السر؟
كتابات كثيرة مفسرة وشارحة، لكننى توقفت عند كتاب صدر مؤخرا للدكتور أحمد يوسف على، «أم كلثوم: الشعر والغناء»، كتاب فريد فى فكرته، وقد يكون الأول من نوعه فى تفسير العلاقة بين شاعرية المغنية ونص القصيدة، أى كيف حلقت الست بالنص من فضاء مؤدية له إلى فضاء التطوير فى صياغته، كما لو كانت شريكا فى تأليفه، والذى يقول لنا ذلك عالم فى اللغة العربية وأستاذ فى النقد.
بالطبع عُرف عن المغنين الكبار أنهم يتدخلون أحيانا فى النصوص التى يتغنون بها، سواء كانت بالفصحى أو العامية، تدخل محدود، مقصور على كلمة هنا أو كلمة هناك، وحدث مع إيليا أبو ماضى فى «لست أدري» التى غناها عبد الوهاب ثم عبد الحليم، ومع نزار قبانى فى قصائد كثيرة غنتها نجاة وعبد الحليم حافظ..وهكذا. ويضرب لنا الدكتور أحمد يوسف أمثلة بقصائد ذائعة الصيت غنتها الست بعد أن تدخلت فيها، مثل «نهج البردة»، أو «النيل»، أو «ولد الهدى»، أو الأطلال، وهى غنت أكثر من تسعين قصيدة، ولم تغن أغلبها كما كتبها شعراؤها، كانت تأخذ القصيدة وتعيد بناء وحداتها من بين عشرات الأبيات حسب رؤيتها الفنية، لتُكَون نصها الغنائى الخاص. فعلت ذلك بوعى ورؤية واقتدار وهى تشدو بقصائد لخمسين شاعرا، من أول بكر بن النطاح من القرن الثالث الهجرى «أكذب نفسى عنك فى كل ما أرى» إلى جورج جرداق فى القرن الرابع عشر «هذه ليلتي»، وإن كان أحمد رامى يأتى فى المقدمة بثمان وعشرين قصيدة وبعده أمير الشعراء أحمد شوقى بتسع قصائد، كما غنت شعرا مترجما من خارج الثقافة العربية، رباعيات الخيام من الشعر الفارسي، وحديث الروح من اللغة الأردية. لكننا نتوقف عند قصيدة الأطلال، وقد أفرد لها المؤلف الدكتور أحمد يوسف على فصلا بديعا بعنوان مدهش للغاية: أم كلثوم تؤلف الأطلال..
والأطلال نظمها الشاعر الطبيب «إبراهيم ناجي»، ولها حكاية شاعت فى الصحف أن الشاعر الرومانسى كتبها على روشتات لمريضته وملهمته الفنانة زوزو حمدى الحكيم، لكن حفيدة الشاعر الدكتورة سامية محرز أستاذة الأدب العربى روت فى لقاء تليفزيونى قصة مختلفة، استقتها من أوراق جدها، وهى أن الملهمة كانت جارة له فى شبابه،هى التى علمته الفرنسية، لكنها تزوجت وسافرت إلى الخارج.
وقد تقفز إلى ذهن القارئ تساؤلات بديهية: هل حقا ألفت أم كلثوم نص الأطلال؟، وكيف صنعت ذلك بعد أن قرأت القصيدة التى كتبها إبراهيم ناجي؟، وماذا امتلكت من مؤهلات لتفعلها؟
وهى نفس الأسئلة التى طرحها الدكتور أحمد يوسف على نفسه فى بداية الفصل، وأجاب عنها بشرح بنية أم كلثوم القوية فى اللغة العربية وصلاتها الوطيدة بالشعر العربى فى كل عصوره، أى ملكت القدرة على التدخل فى النص الشعري، فتعيد بنيانه وتغير ترتيب فقراته وتمزج بين قصائد الشاعر وصولا إلى نص جديد تغنيه، ويضرب أمثلة بـ«رباعيات الخيام»، و«سلوا كؤوس الطلا»، ثم يستفيض فى تفسير كيف ألفت أم كلثوم الأطلال.
قال بالنص: لم تغن الأطلال التى كتبها ناجى فى ديوانه، بل غنت الأطلال التى كونتها وأنشأتها من مادة شعرية وفيرة متسعة لم تكن الأطلال إلا جزءا منها.
والأطلال كتبها ناجى فى الأربعينيات ونشرها فى ديوانه «ليالى القاهرة»، 31 مقطعا رباعية الأبيات، بينما أطلال أم كلثوم عشرة مقاطع ثلاثية الأبيات، ويختلف ترتيب المقاطع العشرة عن ترتيب أطلال ناجي، والأهم أنها مزجت معها مقاطع من قصيدة الوداع، أى كونت نصا شعريا جديدا فى هيكله وملامحه، رأت أن الناس سوف تستمتع بها وتعيش معها.
هذه رؤية جديدة ثاقبة، تكشف جانبا غنيا من موهبة الست التى ستظل خالدة فى وجداننا مهما مرت السنون والقرون.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية