تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
رقص وفكر وأشياء أخرى!
لعنة الله على الإنفلونزا حين تزورنى فى الصيف، لا تجد نِفْسا للقراءة أو الأشياء الجادة، فتجلس أمام التليفزيون، وبالمصادفة تابعت برنامجا فنيا، من تلك البرامج التى تكتشف مواهب الغناء والرقص ..إلخ، شدتنى الجدية والدقة بين الضيوف ولجنة التحكيم والراقصين والمغنيين الباحثين عن فرصة، صفقت وهللت، وفجأة هبط شيطان الأسئلة على رأسى برزالة، كأنه يستكثر ألا ينغص عليَّ وقتي، وقال: لماذا لا نكون جادين فى كل أعمالنا كما يفعلون فى الغناء والرقص..إلخ؟
حاولت التملص منه ساخرا: العبد لله مجرد فرد لا حيلة له فى مثل هذه الأمور، فأذهب ودعنى استمتع بهذه الرقصة البديعة.
اغاظته إجابتي، فأمسك بعنقى وضغط على رأسي، وأنزل مشاهد متراكمة من برامج الترفيه فى القنوات التليفزيونية، وسأل: هل إصلاح أحوال أمتنا مرتبط بأن نعيد اكتشاف مواهبنا وإمكاناتنا فى الرقص والغناء والتنطيط ولعب الكرة ونفرد لها كثيرا من البرامج؟
قلت: الناس تعبانة ومضغوطة وتحتاج إلى بعض التسلية والترفيه عن نفسها، حتى تستطيع أن تمضى فى مشوار الحياة الصعب، كفاهم متاعب فى الشغل والحياة من أول تعليم الأولاد إلى تزويجهم..إلخ، فهل ننغص عليهم وهم جلوس أمام شاشات التليفزيون؟.
قال ساخرا: يا حبيبي.. التليفونات المحمولة وفرت ذلك بكل سهولة، على اليوتيوب والتيك توك والريلز وغيرها، الترفيه شىء مهم، والجاذبية ضرورة لزيادة نسب المشاهدة، لكن لو ارتفع عندكم عدد المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات إلى مائة ألف مثلا أو مليون فهل هذا يغير واقعكم المأزوم؟ طيب لو نصف الأمة أتقنت الغناء والرقص ولعب الكرة..إلخ فهل سيكونون أول خطوة صعودا على سلم الحضارة؟ باختصار لا الذين فى الأدوار العليا سيشعرون بكم ولا الذين فى البدروم سيسمعون عنكم!
رفعت يدى معترضا بشدة قائلا: أنت لا تفهم..الفنانون مشاعل مضيئة فى طريق أى أمة، الفن عمود أساسى فى نهضة أى شعب، اعتلاء الغرب قمة العالم اقتصاديا وسياسيا وعلميا وفكريا الآن بدأ بالفن فى عصر النهضة، ولا فرصة للتقدم دون إحداث نقلة ثقافية تغير نمط العقل وأساليب التفكير والقيم الحاكمة للتصرفات العامة والفردية!
قاطعنى شيطان الأسئلة صارخا: حاسب حاسب، ثمة انحراف فى تفكيرك، أساس حضارة الغرب الحديثة المزج بين العلوم والفنون، صحيح أن الفنون سبقت بخطوة، مجرد خطوة، لتفتح بابا إلى ثقافة جديدة تحل محل ثقافة القرون الوسطى التى أظلمت العقل الأوروبي، ثم لحق بها العلم فى كعبها، خذ مثالا بالفنان العبقرى ليوناردو دافنشي، لم يكن رساما أو نحاتا أو موسيقيا فقط، كان معماريا ومهندسا وعالما، وله ابتكارات فى أشكال هندسية تحققت بعد موته بفترات طويلة.
قلت: حالة خاصة جدا، لا يمكن القياس عليها. كما أن برامج الترفيه فى الفضائيات الغربية «بالزوفة» وبعضها خرج على أى منطق أو احترام، ويشبه بيوت البغاء..ولا أحد يشكو منها.
قال: نعم دافنشى حالة خاصة جدا، لكنه حالة دالة على المزج المبكر بين الفنون والعلوم فى نهضة أوروبا، ثانيا.. الغرب تعلم ودرس وابتكر وتعب وثابر وأنتج قبل أن ينغمس فى هذا القدر الواسع من الترفيه، أى حقق قدرا من التقدم والتحضر وتراكم الثروة والمعرفة والرخاء يتيح له أن يرفه عن نفسه دون خوف على المستقبل. لكن أن تقلدوا الغرب فى الترفيه وأنتم يا مولاى كما خلقتني، فإذا لم يكن سفها فهو يعوق حركة الانتقال إلى التقدم الذى تحلمون به، خذوا الصين نموذجا، منتهى الجدية فى العمل والابتكار والتعليم..إلخ، ولم تعط أى أولوية للترفيه والتسلية، وقبل سنوات حين توحشت رواتب اللاعبين الأجانب فى الدورى الصينى لكرة القدم، وقفت الحكومة وحددت سقفا لا يمكن تجاوزه، ولم تهتم أن يكون لها صيت عالمى فى كرة القدم أو فى الفرق الفنية، اللعب والفن شىء مهم يضيف للمجتمع وليس على حسابه!
سألته مستسلما لرزالته: ماذا تقصد؟
أجاب: اكتشفوا مواهبكم فى الرياضيات والكيمياء والفيزياء والعمارة والتكنولوجيا والمعرفة والاقتصاد قبل أن تكتشفوا مواهب الترفيه، اصنعوا من العلماء نجوما وقدوة، لا يعقل أن يكون مرتب أهم باحث عندكم فى علوم الذرة أو الكمبيوتر أقل من 1% من راتب لاعب أو مغنى مهرجانات..بالقطع لسنا ضد الترفيه والتسلية: فنا أو رياضة، لكن كيف تضعونه فى مقدمة حياتكم قبل العلم والمعرفة..أنتم فى حاجة إلى عقل علمى جديد للمجتمع!
كررت عباراته متعجبا، وسألته: .. وكيف هذا؟
قال: العقل له مصادر بناء وهى التعليم والثقافة والفنون والإعلام، وبالمناسبة الفنون درجات، فنون رفيعة المستوى وفنون أدنى.
قلت: يعنى كل واحد يبنى عقله بنفسه؟
قال: قطعا لا، ليس هذا عملا فرديا، التعليم مسئولية الحكومة مسئولية مباشرة، لا مسئولية أولياء الأمور، ولا «جروب المميز»، التعليم يشبه النهر الكبير، تتفرع منه أنهر كثيرة، نهر الثقافة، نهر القيم، نهر الإعلام، نهر الفنون..وهكذا، فإذا كان تعليما جيدا، فهو لا ينشغل بحشو عقل الطالب بمعلومات يلقى بها فى الامتحانات، ويحصل على شهادة، وإنما يهتم أساسا بالبناء، بناء العقل أداة التحكم ومركز إصدار القرارات، تعليم منشغل بدراسة فلسفة المعارف، من لغة ورياضيات وتاريخ وجغرافيا وكيمياء وفيزياء..إلخ، والامتحانات هى مقياس قدرة العقل على «الفهم المعرفي» وليس حفظ التفاصيل، ودون هذا النوع من التعليم تظل المجتمعات تدور فى المتاهة بين نصف المتعلم ونصف الجاهل.
والعقل العلمى هو الذى يستطيع استغلال الوقت سواء فى العمل أو فى الترفيه، ليكون طاقة دافعة إلى الإمام، وليس مجرد ساعات أو سنوات تمر.
زهقت..أغلقت التليفزيون، فهرب شيطان الأسئلة من أمامي!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية