تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

خطة إخفاء تركة الرسول

قد نتفق أو نختلف على أن ثمة مفاهيم وتفسيرات وتأويلات للقرآن الكريم تأخذنا إلى مناطق نركن إليها أو نقعد فيها أو نتمسك بها، فنجد أنفسنا وقد اعتدنا تصرفات وسلوكيات نتصورها دينا صحيحا، وهى بعيدة عنه.

وأيضا لو تأملنا كثيراً من المسلمين وهم يتشفعون مثلا بأولياء أو يتتضرعون إلى الله عبر آل البيت أو يحتفلون بـ«الموالد» وينصبون لأصحابها حلقات ذكر ومسيرات بأعلام ترفرف، أو يحلفون بالله دلالة على صحة فعلٍ أو قول أو..أو، أين تقع هذه التصرفات من صحيح الدين مع الاعتراف بصدق نيات أصحابها؟

أقصد أننا لا نتحدث عن أشقياء أو لاهين أو مارقين، وإنما عن بشر أغلبهم يريد التقرب إلى الله ومرضاته، بتصرفات أمرنا الله أن نقاطعها باعتبارها مفسدة، وحددها تفصيلا فى قرآنه.

والمدهش أن هذه التصرفات تحدث تحت أعين رجال دين وشيوخ وعلماء، يخطبون فى الناس ويعلمونهم أو يفتونهم فى كل شىء سواء وجها لوجه، أو عبر الفضائيات والإذاعات وشبكات التواصل الاجتماعي.

ما الذى حدث حتى انحرفت المفاهيم؟، ما هى الأداة التى استخدمت فى عملية التحريف فقبلها الناس ووثقوا فيها؟

هذا سؤال ثروت الخرباوى فى كتابه المهم «إخفاء تركة الرسول»، والتركة هى تعاليم الإسلام التى أنزلها الله على رسوله، والكتاب يشبه هزةً قويةً لرؤوسنا، هزةٌ ترج أفكارا عشنا عليها قرونا نتعمق فى مساراتها المتعرجة، حتى تاه كثير منا عن هذه «التركة»، وبمعنى أدق اختفت تحت ركام هذه الأفكار فلم نعد نراها جلية كما أمرنا الله.

وأجاب ببساطة هى «اللغة»، التى اسْتُخْدِمت فى التفسير والتأويل، نعم قد تصدمك الإجابة، وقد لا تصدقها، لكنه قدمها بحجج شديدة التماسك وأدلة تخاطب العقل، وهو هنا يمضى على منهج المفكر الكبير الدكتور محمد شحرور، فى تفكيك اللغة وإعادة تركيبها حتى نفهم النص المقدس على الوجه الصحيح، ويشق لنفسه دربا خاصا يبدد فيه «التشابك» أو الخلط المتعمد بين اللغة واللسان، وهو الخلط الذى أحدث التحريف،  فليس اللسان واللغة شيئا واحدا، وإن كان بينهما تشابه لا يُنكر.

واستند فى حجته وأدلته على القرآن الكريم، كلمات الله المنزلة على رسوله، فالله لم يستخدم مطلقا لفظ (لغة) فى توصيف كتابه، وإنما قال: «بِلِسَانٍ عَرَبِيِّ مُبِينٍ»، وقال: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه»، والهدف واضح وهو تجنب الاختلاف فى فهم رسالته إلى البشر، فالاختلاف دوما يتحول إلى خلاف، والخلاف قد يؤدى إلى القتل، ولهذا لم يقل «بلغة قومه»، فاللغة من اللغو، تتكاثر فيها المرادفات بمعانيها المتدرجة، التى تجعل الفهم مختلفا ومضطربا ومرتبكا!

ومن يراجع تاريخ المسلمين من عصر الخلفاء الراشدين حتى الآن يجد ألف دليل على اختلاف الفهم الذى يؤدى إلى القتل باسم الله، ولماذا؟، لأنهم انتقلوا فى فهم القرآن من منطقة اللسان إلى منطقة اللغة، اللسان ليس فيه مرادفات، وكل لفظ له معنى دقيق لا يسهل تأويله، واللسان القرآنى يوظف كل كلمة فى موضعها تماما، لكن اللغة مشبعة بالترادف، فلا تعرف تلك الدقة الوظيفية، وحين يحل مرادف محل كلمة قرآنية يتحرك المعنى بالضرورة عن مقصده.

ويفسر ثروت الخرباوى الفرق بين التحريف والتغيير، التحريف هو تحريك معنى الكلمة عن معناها، وهو غير التبديل أى تغيير الكلمة نفسها.

وبعد أن يحدد ثروت الخرباوى منهجه بالعودة إلى اللسان فى فهم القرآن يقتحم أرض الأشواك التى زرعها اللغويون، ويضرب أمثلة شائكة، قد يرتجف أغلب المسلمين من مجرد التفكير فيها من فرط ما وقر فى نفوسهم من معانٍ متوارثةٍ ، قد لا تكون صحيحة، ويبدأ بفك التحريف بين كلمتى الرسول والنبي، وهو تحريف سَبَبَ اضطرابا فى فهم آيات كثيرة فى القرآن، فالرسول مكلف بإبلاغ رسالة الله إلى الناس، والنبى مكلف بدعوة الناس إلى تفعيل رسالة أنزلها الله فى زمن سابق، لكن الله خاطب رسوله ونبيه محمد بين عبد الله بالصفتين، ولكل منهما مقصد مختلف، والخلط بينهما أوقع الناس فى مشكلات كثيرة، فحين يخاطبه الله بـ«أيها الرسول» فهذه آيات رسالية تحتوى على مقاصد الإيمان العليا مثل الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبر الوالدين وتحريم القتل والسرقة والتشريعات وما إلى ذلك، ولهذا يعصم الله رسوله من الناس ويحميه من عدوانهم، حتى يُمَكنه من تبليغ رسالته، التى لا تنتهى وممتدة فى الزمان إلى يوم الدين، ولا تتعلق بشخص الرسول مع أنه حاملها إلى الناس.

 وحين يخاطبه بـ«أيها النبي» فهذه آيات نبوية تحتوى على حركة النبى بين قومه وحياته وجهاده وسعيه لتطبيق المفاهيم الرسالية، أى تعليمات إجرائية أو حالات خاصة للنبى صلى الله عليه وسلم  فى زمنها وبيئتها وليست تشريعات، والنبوة تنتهى بوفاة النبي. ويضرب ثروت الخرباوى مثلا بالخلط اللغوى بين النبوة والرسالة فى قول الله تعالي: «يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال»، إذ فسرها الفقهاء على أنها «أمر رسالي» ينبغى أن يظل قائما بين الأمة إلى أن تقوم الساعة، بينما كان أمرا نبويا خاصا بقدوم جيش الكفار لغزو المسلمين فى المدينة، أى تحريض مرهون بظرفه، فالأصل أن الله لا يحب المعتدين.

وينتقل الكاتب إلى أشكال من هذا التحريف: فى الصلاة على النبي، فى الناسخ والمنسوخ، أحكام الوصية، رؤية الهلال، الرحمة وقتل تارك الصلاة، الجزية والغزو، الإيمان والكفر، العباد والعبيد، البيعة للحكم، الكفر وعدم الإيمان، الطلاق..الخ، وهى مفاهيم مازالت تثير جدلا حتى الآن.  

هذا كتاب مهم فى تجديد الفكر الديني، سواء اتفقنا مع أفكاره أو لم نتفق.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية