تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

خريطة إنقاذ الإعلام

يُصاب عقل أى مجتمع بعطب حين تُغلق فيه جريدة أو محطة إذاعة أو دار سينما أو خشبة ‏مسرح أو أبواب مطبعة أو صالة فن تشكيلى، إذ ينطفئ جزء من وعيه وإدراكه وقدرته على ‏التطور والنهوض، وتحل بعض العتمة محل الضوء، وبعض الجهل مكان المعرفة، وبعض ‏الجمود والغباء بدلًا من الحركة والاستنفار الذهنى.‏

لهذا رسم الرئيس السيسى خريطة طريق لو سار عليها الإعلام المصرى المكتوب والمقروء ‏والمسموع سوف ينتقل بالضرورة إلى فضاء أرحب وأكثر قدرة على التأثير والبناء، ‏وخريطة الرئيس بسيطة للغاية كما حددها: «إعلاء حرية التعبير واحتضان كل الآراء ‏الوطنية بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكرى، وأن تتاح له البيانات والمعلومات حتى ‏يتناول الموضوعات بعيدًا عن المغالاة فى الطرح أو النقص فى العرض»!‏

منتهى الوضوح والدقة، فالمجتمعات العفية هى التى تمنح الأفكار والمعلومات سوقًا حرة، ‏وكلما زاد المعروض فيها، كلما كانت فرصة المجتمع: مؤسسات وأفراد أكبر، فى بناء معرفة ‏صحيحة ومواقف صائبة وقرارات فَعَّالة، فالمعرفة هى ماكينة التشغيل العلمية والطاقة ‏الدافعة إلى الأمام، كما أن تصادم الأفكار يشبه الانشطار النووى يتوالد عنها موجة من ‏التوهج الذهنى صانع الحضارة والتقدم، وإذا ضاقت السوق لأى سبب ضعف عقل المجتمع ‏وخبت عناصر التوهج، فيسهل اصطياد مواطنيه فى حبائل الأفكار المغلوطة والجهل!‏

وأتصور أن خريطة الطريق التى عرضها الرئيس على كبار المسئولين عن تنظيم الإعلام ‏والصحافة، فى اجتماعه معهم الإسبوع الماضى، يمكن أن تصد عنا عواصف الإفساد ‏العقلى والنفسى التى تهب علينا من شبكات التواصل الاجتماعى، فالرئيس يطلب من الإعلام ‏أن يكون محترفًا ويؤدى وظائفه فى الإخبار والإفصاح والآراء الحرة والتعليم والنقد والتحليل ‏والتسلية والخدمات بكفاءة، حتى يحمى المجتمع من طوفان الفيديوهات والتعليقات والمواقع ‏والصفحات على شبكات التواصل الاجتماعى، وأغلبها يُتقن الإثارة ويعزف على المشاعر ‏ويروج الشائعات ويغازل الغرائز ويخاطب الرغبات بالغرائب من السلوكيات والأفكار ‏المفخخة عمدًا أو جهلاً، فيصنع بيئة ملوثة مُربكة وضاغطة تحيط بمن يسقطون فى غوايتها، ‏ومن ثم يفقدون التمييز بين الصحيح وغير الصحيح! ‏

لا يمكن مواجهة هذه الشراسة الغوغائية إلا بإعلام محترف كفء حر الحركة قادر على ‏التعبير عن الناس ومصالحهم وأحوالهم وأيامهم، يرصد التفاصيل فى كل جنبات حياتهم، ‏معريًا الأكاذيب والفساد، فيكسب ثقتهم وشغفهم به!‏

والإعلام الحر لا يعنى فوضى فى الآراء والأفكار وأدوات التسلية، فالحرية مسئولية، نعم ‏مسئولية يحددها القانون لا قرارات موظفين، لأن فوضى الإعلام فى أى مجتمع أكثر خطورة ‏من مؤامرات أعدائه، إذ يصبح ثغرة أكبر من ثقب أسود ينفذ منه أعداء الوطن إلى قلبه ‏وعقله بكل سهولة، وكم من شعوب هزمها إعلامها قبل أعدائها؟

إذًا نحن أمام تحدٍ فى غاية الصعوبة والخطورة، فالإعلام المحترف الكفء ليس عملاً هيّنًا ‏يمكن أن يمارسه كل راغب أو محب أو صاحب مصلحة، بدليل أن أعداد الإعلاميين ‏والصحفيين المهرة بحق قليلة، والشهرة خلف الشاشات أو على المكاتب الوثيرة لا تعنى ‏الكفاءة أو الموهبة، فالشهرة أحيانا تأتى بالإلحاح والإثارة وليس بالقيمة، نعم عندنا نجوم لامعة ‏فى الإعلام لكن قيمة ما يقدمونه إلى الناس محدود للغاية وأحيانًا ضار، هم شطار فى كيفية ‏اجتذاب الناس، لكنهم مثل «الوجبات السريعة»، مرغوبة وشهية لكنها مضرة جدًا، وأيضًا ‏عندنا بعض النجوم فى غاية التفوق.‏

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الإعلام المصرى: «تليفزيون وصحافة» فى أزمة، أزمة قديمة طال ‏أمدها، وحان أن تحال إلى المعاش تمامًا، وإن كانت أزمة الصحافة أطول عمرًا من أزمة ‏التليفزيون، فأزمة التليفزيون وجدت حلاً مرضيًا إلى حد ما فى إنتاج ضخم من مسلسلات ‏رائعة كتبها مؤلفون عظام مثل وحيد حامد، أسامة أنور عكاشة، صالح مرسى، محمد جلال عبد‏القوى، محمد صفاء عامر، يسرى الجندى، محفوظ عبدالرحمن، مصطفى محرم، عبدالسلام ‏أمين، محسن زايد وغيرهم من الأجيال الجديدة، ولم تترك شاردة ولا واردة فى المجتمع ‏المصرى دون أن تتعرض له نقدًا وتحليلا، فكانت تعويضًا عن نحافة نشرات الأخبار ‏وضحالة البرامج السياسية والاقتصادية، ولا يمكن أن ننسى برامج جادة جمعت بين الجاذبية ‏والقيمة فى قضايا ثقافية واجتماعية، نرى قبسا منها على قناة «ماسبيرو زمان».‏

وأزمة قنوات التليفزيون الحالية أنها متشابهة فى البرامج والأفكار إلا نادرًا، وتكاد تكون ‏نسخًا متشابهة أو توائم، الاختلاف فقط فى تسريحة الشعر ولون الثياب والعدسات الملونة ‏للعيون وديكورات الاستديوهات!‏

أما الصحافة فحكايتها حكاية، والصحافة عنوان أى مجتمع، هى المرآة التى يقف فيها كل ‏صباح ليرى نفسه وأحواله وبيئته بالتفاصيل، تشخيص يومى لأمراضه وعيوبه ونجاحاته ‏وإخفاقاته، ليعيد ترتيب أوراقه وتنظيم حياته ويختار الطريق الذى يجب أن يمضى فيه، ‏والقرارات المطلوب اتخذها والسياسات التى عليه اتباعها، ليتجنب المرض ويحسن من ‏صحته العامة وجودة معيشة مواطنيه، ودون هذه المرآة يبدو المجتمع مثل رجل كفيف يعبر ‏‏«طريقًا سريعًا» بمفرده معتمدًا على أصوات المركبات العابرة بسرعة جنونية دون أن يعى ‏اتجاهاتها.‏

ولكم أن تتخيلوا أن توزيع الصحف المصرية الآن، كلها مجتمعة قومية وخاصة وحزبية، يقل ‏عن توزيع أى جريدة يومية من الجرائد اليومية الكبرى قبل 15 عامًا، والمسألة ليست ‏إلكترونية أو ورقية كما يشيع البعض، فالجرائد العالمية الناجحة استعوضت النقص فى قراء ‏النسخة الورقية، بزيادة مضطردة فى قراء النسخة الإلكترونية مدفوعة الثمن.‏

صحيح أن أدوات العصر الافتراضى استحدثت مفاهيم ومفردات وعناصر جديدة زاحمت ‏مفاهيم الواقع القديم، وتكاد تحل محلها، إلا أنها فى النهاية أدوات مساعدة فى إنتاج المحتوى ‏الصحفى بأشكال أكثر تطورًا فقط، وهو ما لم يستوعبه كثير من الصحفيين، فأصبحت ‏المؤسسات تنتج سلعًا صحفية لا تستطيع أن تجتذب مستهلكين جددا نتاج ثقافة وعصر جديد، ‏بعد أن خسرت مستهلكيها التقليديين!‏

باختصار الصحافة المصرية فى حاجة إلى كوادر مهنية تستطيع أن تنتج جريدة تتوافر فيما ‏تنشره ورقيًا أو إلكترونيًا كل عناصر الجاذبية والتنوع والمنفعة، بمعايير المنافسة الحديثة، ‏مع شبكات التواصل الاجتماعى!‏

والكوادر يصنعها إعادة التدريب والتأهيل خارجيًا قبل أن يكون داخليًا!‏

نأتى إلى العنصر الأهم وهو تحويل خريطة الطريق التى عرضها الرئيس إلى «برنامج ‏تنفيذى» تلتزم به المؤسسات الإعلامية والقائمين عليها.‏

والمشكلة أن بعضًا من المؤسسات الإعلامية تسكنهم مخاوف متوارثة من إعلاء ‏حرية التعبير واحتضان كل الآراء الوطنية بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكرى، ‏ويتصورون مثلًا أن الإعلام بما تمتع به من حرية إلى حد كبير فى عصر الرئيس حسنى مبارك ‏هو الذى أسقط مبارك، وهو تصور خاطئ، والدليل أن الإعلام الرسمى كان أضعاف الإعلام ‏الخاص والحزبى المعارض صحفًا وقنوات تليفزيونية، وعليهم ‏أن يراجعوا هذا التصور ويسألون: ولماذا لم ينجح الإعلام الرسمى بالرغم من كثافته فى ‏إقناع الرأى العام بحسنى مبارك؟، قد يستغل الإعلام المناوئ «ظروفًا مواتية» فى تمرير ‏رسائل معادية وتشكيل رأى عام غاضب، نعم يستغلها لكن لا يصنع هذه الظروف، والعكس ‏صحيح لا يستطيع الإعلام «المؤيد» أن يبلع الناس أوضاعًا يرفضها أو لا يرضى عنها أو أداء ‏حكوميًا هزيلاً، لأن الواقع المعاش أقوى من أى إعلام، فالناس تصدق حياتها لا ما يقال لها.‏

إذن علينا جميعًا أن نفسر خريطة الرئيس عبدالفتاح السيسى بطريقة صحيحة ونعمل بها من ‏أجل مصر الجديدة

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية