تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حوار فى قطار الجنوب السريع!
قبل كل شىء اعتذر للكاتبة الإنجليزية الرائعة أجاثا كريستى، فالعنوان مقتبس من اسم رواية لها، جريمة فى قطار الشرق السريع، وصدرت فى عام 1934، وهى أشهر أعمالها وتحمل رقم 16 بين ست وستين رواية كتبتها فى ستة وخمسين عاما، وقد أنتجتها السينما فى ثلاثة أفلام، أفضلها للمخرج سيدنى لوميت فى 1974.
اما الحوار فقد كان مع الفنان طارق الدسوقى، وقد جمعتنا المصادفة فى قطار الصعيد، كنا على سفر إلى أسيوط، مدعوين إلى ندوة بمدينة القوصية، عن كتاب «أيامي..شاهد على خمسة عصور» للسياسى المصرى جمال أسعد، بالطبع أعرف طارق الدسوقى من أعماله السينمائية والتليفزيونية والمسرحية، من أول دور صغير شهدته له مع الرائعة شادية فى فيلم «لا تسألنى من أنا»، وتابعته فى أدوار مختلفة، ضابط النقطة فى «مازال النيل يجري»، محمود ابن عبدالمنعم مدبولى فى «السجين»، ضابط المخابرات المصرى فى مسلسل «السقوط فى بئر سبع» إلى توفيق خاطر فى «أخت تريز».
كان معنا القصاص «هانى مِنَسّى، ركبنا قطار العاشرة المتجه إلى أسوان، حال القطار يشبه أحوال القرى القديمة النائية، تعارفنا وراح الحديث بيننا يتحرك مثلما تحرك القطار هادئا بطيئا، كعادة الناس حين يلتقون لأول مرة فى رحلة سفر طويل، يحاولون «مضغ» الوقت فى أحاديث شتى، فلا يشعرون بوطأة المسافة والضجيج، خاصة فى رحلة تقترب من ست ساعات، يقطعون فيها ثلاثمائة وخمسة وسبعين كيلومترا.
كان طبيعيا أن نتحدث عن السينما المصرية وأدوار خالدة فى أفلام قديمة لا تقل جودتها عن الأفلام العالمية، ثم أخذنا الحديث إلى أسباب تقدم المجتمعات وتخلفها، ودور الفن والدراما فى بناء الوعى العام، وروى لى الفنان طارق تفاصيل اعتذاره عن مسلسل رمضانى، بعد أن حضر أول البروفات وطلب من مخرجه بعض التعديل ولم يتفقا..
فسألته: كان يمكن أن تؤدى دورك وتجيده وينتهى الأمر والمسئولية تقع على المخرج؟
أجاب ببساطة: ممكن، لكن لا أقبل هذا، المسألة ليست «تسلية وخلاص»، مع التسلية ما هى القيم التى يحملها العمل إلى الناس، فى أى مجتمع غير مجتمعنا، ممكن أن نقبل التسلية للتسلية، لكننا مجتمع يحاول أن ينهض، أن يشد عوده وينتصب أمام تحديات كبيرة، هنا الدراما عليه «دور فى غاية الأهمية» إضافة إلى التسلية، وهو القيم التى تتسلل إلى الناس وتجعلهم يعيدون التفكير فى تصرفاتهم وسلوكياتهم.
ضحكت قائلا: الدراما بهذا المنطق تحولت إلى مدرسة وتربية وتعليم..
فقال: ولم لا؟، الفن يربى ذوق الناس ووجدانهم، ويرتقى بهما..ماذا يعنى أن أعرض الجانب القبيح من الواقع وأشدد عليه، هل نحث الناس على قبول القبح والتعايش معه؟، هل التعود على القبح يشجع الناس على العمل والإنتاج والقيم الرفيعة..ماذا يعنى أن نظهر القانون فى حالة ضعف وعدم القدرة على الفصل فى مشكلات الناس مع بعضها بعضا، وأن الناس بالعرف يمكن أن «تحل» تناقضاتها فى الحياة التى تصل إلى خلافات حسب رأى شخص وفهمه لطبيعة العلاقات، وليس وفق قواعد معلنة ومعروفة للجميع ولها إجراءات حامية للمدعى والمدعى عليه، القانون هو السيد الأوحد، وبالمناسبة هذا هو الفارق بين الدولة والقبيلة، الدولة مؤسسات لها الشرعية العامة، القبيلة أفراد لها حيثيات المكانة والثروة، فأى معنى تريد أن تنشره؟
خذ مثلا مسلسلات تعدد الأزواج، وقد تكررت فى العشرين سنة الأخيرة، أليست مهينة للمرأة المصرية التى تلتقى مع زوجها وفق جدول، ومجبرة أن تعيش فى وئام مع ضرايرها..، ممكن أن أضرب لك نماذج من قيم لا تصح أن تكون لها السيادة فى أفكار الدراما أو تأخذ مساحات إيجابية طويلة، لما لها من تأثير سلبى حاد على فهم الناس لطبيعة العلاقات فى المجتمع، وعلاقات المجتمع إما علاقات تحثه على النهوض والعمل، أو علاقات تعوق التقدم والعمل.
لم أحاول أن أقاطع الفنان طارق الدسوقى، فكلامه له وجاهة وخلفه ثقافة ورؤية.. سكتَ، أخذ نفسا عميقا ثم قال: طيب هل يمكن أن تعلم الدراما مشاهديها على التفكير العلمى المنظم فى التعامل مع مشكلاتهم اليومية فى الحياة؟
قلت: الإجابة لك.
قال: أبطال أى عمل يتحركون فى محيط تتعقد مشكلاته، وتتصاعد لتشكل عقدة العمل، ويمكن أن ينحو أبطاله فى التصرف إلى التفكير المنطقى أو إلى التفكير العشوائى فى التعامل معها، وهذا صحيح دراميا وذاك صحيح دراميا أيضا، الناس تتعلم من الفن سواء بوعى أو دون وعى، بمعنى ما يرونه ويتفاعلون معه يشبه «بذورا» خفية تنبت فى وجدانهم وعقولهم بالتراكم، بمعنى أن الفرد يتعامل داخل الدراما مع مؤسسات كالشرطة والقضاء والمستشفيات والدواوين والشركات والورش والمواصلات العامة..الخ، أساليب التعامل ونتائجها تبث قيما فى المشاهد، وهذه القيم تشكل جزءا من الوعى العام للمجتمع بأحواله.
قلت: أنت تطلب أن تلتزم الدراما بصور إيجابية عن الأفراد والمؤسسات دائما وهذا يناقض الواقع أو على الأقل يكذب فى تصويره؟
قال: لا أطلب هذا على الإطلاق، وإلا حولنا الفن إلى مواعظ، والمواعظ نقيض الفن، لكن أن نستعرض الواقع ونبين القيم الجميلة والمثل الرفيعة فى مواجهة القبح والعنف والجهل والبلطجة والتنمر وعندنا مئات المسلسلات والأفلام قدمت هذا الفن الرائع..علينا أن نُعلى من قيم القانون والحق والعدل وكرامة المرأة، مثلا نحن نقول إن ثالوثا رهيبا هو عدونا الأول: الجهل والفقر والمرض، وفى الحقيقة هو عدو أوحد هو الجهل، فالجهل سبب الفقر والمرض. عند هذا الحد كنا وصلنا إلى أسيوط، فانقطع الكلام وتواعدنا على استكماله فى وقت لاحق.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية