تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حوادث القطارات وبناء الإنسان!
مبدئيا أعترف بأنه لا علاقة بين حوادث القطارات وبناء الإنسان، حتى حوادث القطارات نفسها ليست هى المقصودة، هى مجرد «رمز» عن كل التصرفات الخاطئة والسلوكيات المُهْمِلة وحالات التسيب فى مجتمعنا، إذن لماذا هذا العنوان؟
أقول لكم صدقا، هو أداة تنبيه، صوت زاعق، لعلنا نضبط مؤشر الكلمات والمصطلحات، فاللغة وعاء الفكر، وحين تنحرف كلمات اللغة عن معانيها المباشرة، أو تتداخل فى بعضها البعض، تتوه عن مقاصدها، فتقع مصادمات فى العقل أخطر كثيرا من حوادث الطرق، فحوادث العقل أشبه بالوباء سريع الانتشار زمانا ومكانا وتأثيرا وخسائرها فادحة ممتدة لأجيال، وإصلاحها عويصة للغاية، بينما حوادث الطرق محدودة الزمان والمكان والتداعيات والخسائر.
مثلا نحن نستخدم مصطلح بناء الإنسان، بينما نقصد بناء الوعى العام، لأن بناء الإنسان عملية شديدة التعقيد، وتتكون من عدة طبقات: علم الأحياء وعلم النفس والتكيف الاجتماعي، يعنى خلايا دم وخلايا عصبية وخلايا عضلية ..الخ، ناهيك عن تشكيل العقل ثم السلوك، أى تركيبة متشابكة بين الطبيعة والتنشئة على مدار العمر كله، لكن يمكن تحسين أحوال الإنسان فى الجوانب المختلفة، كالصحة العامة والصحة النفسية والبيئة الاجتماعية.
أما الوعى فهو الإدراك أو فهم الإنسان لما يحيط به وما يحدث حوله، والوعى السليم هو الذى يكون متناغما مع بيئة الإنسان وعواطفه وأفكاره، وبناء الوعى هو رفع كفاءة «قرون الاستشعار» لديه، ليلتقط إشارات المجتمع من مشاعر وأفكار ويفسرها على النحو الذى يصنع مع الآخرين «حالة تعايش إيجابي»، والوعى العام هو إدراك القضايا المجتمعية والأحداث المهمة والإلمام بجوانبها.
وأى خطأ فى التقاط هذه الإشارات وفهمها على نحو صحيح، تنتهى بتصرفات سيئة ضارة بمجتمع صاحب هذه التصرفات، سواء فى مجتمعه الصغير المحيط به أو مجتمعه الكبير الواسع.
وحادث القطار الأخير فى المنيا أو انقلاب أوتوبيس طلاب جامعة الجلالة، أو خسارة شركة قطاع عام بسبب أداء روتينى من رئيس مجلس إدارتها وكبار موظفيها أو تعطيل مصالح مواطنين بسبب تكاسل موظفين، أو سوء مستوى طلاب فى مدرسة بسبب إهمال مدرسيها وإدارة التعليم بها، كل هذه السلوكيات الخاطئة وصور التسيب والسلوكيات ترجع فى جانب منها إلى «وعى عام معطوب»، وبالطبع لا ننكر أن ثمة أسبابا اقتصادية واجتماعية وثقافية لهذا الوعى المعطوب، وعلاجها ليس سريعا أو بسيطا ويستنفد طاقة ومالا ووقتا قد يطول، ويلزمه تخطيط استراتيجي، لكن تخفيف عوارض الوعى المعطوب أمر متاح، مثل حالة إنسان مصاب بمرض عضال يحتاج علاجه إلى شهور وربما سنوات ليبرأ منه، لكن إزالة صداعه أو تخفيف، أوجاعه أو خفض درجة حرارته من العلاجات السريعة الممكنة.
وقطعا سائق حادث القطار وسائق أوتوبيس الطلبة المقلوب ولص الكهرباء والموظف المتكاسل، وأى مواطن لا يؤدى دورا مفيدا وبَنَّاء فى محيطه الذى يعيش فيه، أو لا يتقن عمله أيا كانت مهنته، كل هؤلاء فى حاجة إلى إعادة بناء الوعي!
والسؤال: هل نستطيع إعادة بناء الوعى أو رفع مستواه سواء كان خاصا أو عاما؟
نعم..نستطيع بالرغم من صعوبتها، فدماغ الإنسان أشبه بشبكة واسعة ومعقدة من الروابط التى تتكون من المعارف والتجارب والعواطف والذكريات، وإعادة بناء الوعى هو الدخول على هذه الشبكة، وإعادة تشكيل جزء منها، إذ يستحيل إعادة تشكيلها بالكامل، وأداة التشكيل هى التعليم والمعرفة ونقل التجارب، باستخدام المدارس والجامعات وأجهزة الإعلام والمنتديات العامة وورش العمل والندوات التفاعلية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهنا علينا أن نفرق بين أمرين مختلفين تماما، بين إعادة بناء الوعى والحشد الجماهيري، إعادة بناء الوعى عملية عقلية يحكمها المنطق والعلة والشفافية والمكاشفة، بينما الحشد عملية عاطفية تحكمها المشاعر بالدرجة الأولي.
باختصار إعادة بناء الإنسان أو بناء وعيه مسألة مركبة متسعة بحجم الفضاء، ويصعب تغطيتها فى مقال أو حتى فى كتاب، لكن من حسن الحظ ثمة عنصر مشترك بينهما، بين أيدينا ويسهل التعامل معه فورا، هو التدريب وإعادة التأهيل، وعلينا أن نلتزم به ونداوم عليه ولا نتوقف عنه .
وأظن وبعض الظن حلال، أننا لا نبذل جهدا مخلصا فى التدريب وإعادة التأهيل بالرغم من حيويته، تخيلوا معى لو أن سائق القطار وسائق أوتوبيس الطلبة قد نالا تدريبا وأُعيد تأهيلهما كل بضع سنوات، ما نسبة احتمال ارتكابهما الخطأ أو الحماقة أو الإهمال الذى تسبب فى الكارثة القاتلة؟، ماذا يحدث لو أعدنا تأهيل كل العاملين فى الدولة ليتقنوا أعمالهم؟ إتقان أى مهنة يجنبنا خسائر كثيرة.
طبعا ثمة برامج تدريب وإعادة تأهيل فى قطاعات ومؤسسات وهيئات كثيرة، لكن بعضها أو أغلبها برامج على الورق أكثر منها برامج فى الواقع، برامج للمكافآت وليس للعمل الجاد! نريد نظاما عاما للتدريب وإعادة التأهيل فى كل قطاعات الدولة، من أول ما يتعين أى موظف أو عامل إلى نهاية خدمته، ينقل إليه تجارب وخبرات جديدة، ويساعده فى تطوير مهاراته العملية والنظرية، وتعزيز مفاهيمه المهنية فى التواصل والتعاون والعمل الجماعي، وتنمية قدراته على التفكير النقدى وتحليل المعلومات، واتخاذ القرار حتى لو فى أمور تبدو عادية وبسيطة. قطعا لا أقصد أن التدريب وإعادة التأهيل سوف يقضى على الأخطاء أو الإهمال قضاء مبرما، فالإنسان لا يعرف الكمال، لكنه يقلص المثالب إلى حد الخسائر المحتملة، والأهم أن التدريب بمثابة كشف هيئة جديد نعيد فيه تقويم شخصية كل متدرب ومدى قبوله التطور فى عمله! نريد تدريبا وإعادة تأهيل لكل العاملين فى الدولة، وهو خطوة ضرورية فى إعادة بناء الإنسان ووعيه!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية