تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حديث الرئيس وصناعة المواطن الكفء!
لم يكن حديث الرئيس السيسي مع كبار المدعوين في احتفال أكاديمية الشرطة مجرد «دردشة ودودة أو تواصل دافئ مع مواطنيه، بل كان رسالة وتوجيها يشكلان «رؤية» لصناعة مستقبل مختلف، لأنه ألحقها بدعوة عامة لكل المصريين، أن يعملوا على تنفيذ هذه الرؤية، وبالأخص القيادات في مواقع المسئولية، وعلى رأسهم رؤساء الجامعات وعمداء الكليات والمعلمون!
كان جوهر الرسالة «صناعة مواطن كفء»، وقدم برهانا على رؤيته بمشروع يجرى على قدم وساق يعيد صياغة مؤسسات الدولة، وينقل هذه المؤسسات من أداء لا يرضينا إلى أداء نطالب به ونتمناه، ليس بتجديد مبانيها أو تبسيط إجراءات العمل فيها، وإنما بصناعة «كفاءات» بشرية، تملك المعرفة، تلتزم بمعايير الاتقان، تتصرف بانضباط، وتتخذ قراراتها بالتفكير العلمي المنظم..
باختصار يقول لنا الرئيس إن الإنسان هو صانع التقدم أو سبب التراجع، وأن حال أي مجتمع هو تعبير عن كفاءة أفراده، وإن عقل الإنسان المتعلم تعليما جيدا والمُدرب تدريبا متكاملا هو أثمن الثروات التي يمكن أن تحلق بنا من مدار ضيق إلى مدارات أرحب في المعيشة وكل جوانب الحياة!
الرؤية صحيحة مئة في المئة، ومجربة تاريخيا، وأتت أكلها في دول كثيرة، فاليابان وهي مجرد جزر بركانية غاضبة شحيحة الموارد، في باطنها صفائح تكتونية تتحرك محدثة زلازل وهزات أرضية كل فترة، لكن بإنسان منضبط، متعلم جيدا، يتبع التفكير العلمي المنظم، انتقلت اليابان من القرون الوسطى إلى واحدة من الاقتصاديات الكبرى في القرن العشرين في سبعين سنة تقريبا، ولم تفسد تجربتها قنبلتان ذريتان القتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويمكن أيضا أن نتحدث عن تجارب الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا.. ومن هنا جاءت رؤية الرئيس بأنه لن يسمح بضخ دماء جديدة إلى مؤسسات الدولة والعمل بها، إلا بعد أن تُختار بعناية ودقة ومعايير منصفة تضمن تكافؤ الفرص دون مجاملة، ويُعاد تأهيلها وإعدادها وفق برنامج قوي متكامل نفسيا وعلميا، يستغرق من ستة أشهر إلى سنة.
ومشروع الرئيس- كما قال - جاء ليصوب عوارا موجودا في «البني آدميين»، ويجرى تنفيذه تحت متابعة دقيقة مع المسئول عنه، وتقييم نتائجه يوميا. وطلب الرئيس من رؤساء الجامعات وعمداء الكليات أن «يِطلعوا» لمصر أجيالا قادرة، وحث كل المصريين على أن يتحدوا معا ويعملوا على هذا الهدف.
هذه الرؤية يمكن أن تكون مربط الفرس أو السباق الوطني إلى بناء «مصر الجديدة»، فالتاريخ يعلمنا أن الفقر الحقيقي ليس في الثروة والموارد الطبيعية، مع عدم التقليل من أهميتهما، لكن في العقل، العقل الجمعي لأي مجتمع..ومصر فيها مواهب فردية عظيمة في مجالات كثيرة، بعضهم صاحب نجاحات مبهرة، تفوقوا فيها على أقرانهم في الدول المتقدمة..
ولهذا يسعى الرئيس إلى تغيير العقل الجمعي الذي يدير ويعمل في مؤسسات الدولة، العقل الذي يجسد ثقافة المجتمع ومنظومة قيمه، والقيم ليست هي الأخلاق، هي أشمل منها بكثير، هي الوقود الذي يدير تصرفاتنا، هي الدوافع التي تحركنا، هي آلة الجر التي تشدنا في الحياة، هي مجموعة المعايير التي تضبط أي أداء لنا: صغيرا أو كبيرا، مهما أو تافها، دائما أو مؤقتا، فرديا أو جماعيا، هي سلوكنا في ديوان الحكومة ورواق الجامعة وعيادة الطبيب وعنبر المصنع، وإدارة الشركة وغرفة العمليات ومكتب الهندسة وقاعة المحكمة ومعمل الأبحاث وعمارات السكن ونقابات المهنيين وورش الفنيين وتحت قبة البرلمان..الخ.
شيء رائع أن تعمل الدولة على بناء عقل جمعي مختلف لمؤسسات الدولة، وبالطبع يمكن أن نوفر له «عناصر» إضافية تصون هذا المشروع وتضمن نجاحه واستمراره، فهذه القوة البشرية التي تُختار بعناية ويُعاد تأهيلها وتدريبها لتكون كفاءة مختلفة وصاحبة أداء أرقي في وظائفها تحتاج أيضا إلى بيئة عمل مختلفة عن البيئة الحالية، فبيئة العمل تشبه ماكينة عملاقة قادرة على إعادة تشكيل من يدخل إليها، كي يناسب أحوالها وطريقة عملها، وتجنب الصدام بالمسئولين عن إدارتها، خاصة وهم مختلفون عن القادمين الجدد المؤهلين، سواء في المعرفة أو القيم الحاكمة للأداء.
وأقصد ببيئة العمل، النظام الذي يحكم نشاط الأفراد داخل مؤسساتهم، والنظام هو الأداة لإدارة الموارد والبشر في مكان العمل، والنظام العام ليس أشخاصا، وإنما مجموعة القواعد والتقاليد السائدة التي تنظم حركة الأفراد داخل هذه المؤسسات، والأوامر التي يجب أن يتبعوها في ممارسة أي نشاط، وتحدث الرئيس السيسي بعبارات واضحة عن «عورات» يعمل مشروع الإصلاح على تفاديها وعلاجها علاجا ناجعا.
وأتصور أن الأشخاص فيهم عورات كما قال الرئيس، لكن أيضا البيئة ونظام العمل فيهما عورات، ولهذا لا يعجبنا الأداء في أماكن متعددة، بعضها يرجع إلى تفكير وطبائع الأفراد، وبعضها يرجع إلى نظام العمل والتقاليد السائدة.
ومعروف أن نظام العمل الذي يحتوي على ثغرات، يؤسس تقاليد وعلاقات تشق فجوات خلفية، يتسرب منها أفراد محدودو القدرات إلى مناصب ووظائف عليا، فتتراجع الكفاءة والجودة في مؤسسات وهيئات، كان ينتظر أن يعلو فيها الأداء إلى مستويات، تُمكنها من التطور والتقدم الدائم.
النظام هو جذر الشجرة، ومهما كانت كفاءة الأفراد هما «فروع الشجرة»، فالجذر القوى المتشعب في أعماق الأرض تخرج منها بالضرورة أفرع قوية، والجذر الضعيف تنتقل أمراضه إلى الأفرع بالتبعية، وأي إصلاح في الأفرع سيكون علاجا لا شك في ذلك، لكنه علاج تحت التهديد!
والفرد ابن نظامه والتابع له، مع أن الإنسان هو صانع هذا النظام، وإصلاح نظم العمل يختصر المسافات ويسهل علينا الفرار من نادي الفرص الضائعة!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية