تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

المصريون وعبد الناصر

يتكرر موسم الهجوم على جمال عبدالناصر من خصومه مرتين فى العام، مرة فى 15 يناير ذكرى ميلاده ومرة فى 28 سبتمبر يوم رحيله، فى محاولة لوأد سيرته وأعماله، ويصورونه على أنه «أصل» كل المشكلات التى ضربت مصر مع أنه مات عام 1970 من 53 سنة، ألم يفتت الأرض الزراعية بقانون الإصلاح الزراعي؟، ألم يعلم أولاد الفقراء مجانا فأفسد التعليم؟، ألم يؤمم المصانع والثروات فضاعت الصناعة وتفتت الرأسمالية الناهضة؟.. الخ.

 

مبدئيا لا أتسامح مع خطأين لجمال عبدالناصر، حرب اليمن لأن وجود قوات مصرية خارج حدودها يسمح لأعدائه أن يدخلوا الحرب من الباطن ضدها، وكانت حرب اليمن فخا، حتى لو حمت ثورة اليمن، ودفعنا ثمنها باهظا فى حرب يونيو 1967.

والخطأ الثاني..الوقوع فى الفخ حرب يونيو الذى نصبته القوى العظمي، فأعلن قرارات ونفذ أعمالا تذرعت بها إسرائيل لبدء حربها ضد مصر، انتهت باحتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة.

وأتصور أن غياب الحرية فى عصر عبدالناصر كانا سببا مباشرا فى وقوع الخطأين، فالحرية هى زرقاء اليمامة فى أى مجتمع هى مرصد تفسير المشهد العام وتحليل عناصره فى كل شئون الحياة، أما الصوت الواحد والرأى الواحد، والعين الواحدة، فهى ستارة سوداء كثيفة تحجب الرؤية الصحيحة، فى عالم معقد يحتاج إلى مليون عين ومليون قلم ومليون صوت لفهم ما يجرى فيه، والأهم أن غياب الحرية هو مظلة من الصلب تتيح لأصحاب السلطة فى كل مستوياتها جنوحا فى التصرفات دون أى حسابات، واطمئنانا تاما أن يفعلوا ما يشاءون، إلى درجة إعطاء معلومات مغلوطة إلى زعيم بحجم جمال عبد الناصر، حين سألهم عن «احتمالات الحرب» وإمكانات العدو وموقف الدول الكبرى منها وقدراتنا على النصر، فأخفوا الحقائق وأغرقوه فى أوهام قوة غير موجودة، فدفعوه كما أعداؤه إلى الفخ.

لكن عبدالناصر لا هو حرب اليمن، ولا حرب يونيو، بالرغم من فداحة الخطأين، عبد الناصر كان مشروع تحديث حقيقي، إعادة بناء الإنسان المصري، بالعدل والعقل، العدل هو إزالة الفوارق بين الطبقات وإلغاء الامتيازات، ليس بإفقار كل المصريين كما يكذب خصومه، وإنما بتقليل المسافات الشاسعة بين قلة محدودة تجلس على قمة الثروة، وكثرة ضائعة فى قاع العوز، هل تعرفون أن «عمال الزراعة» كانوا يتقاضون 120 قرشا فى الشهر؟، أى أربعة قروش فى اليوم؟ 20 سنتا أمريكيا وقتها، لو حسبناها بأعلى سعر فى السوق السوداء الآن وهو السعر الذى يحدده تجار الذهب تصل إلى ثمانية جنيهات، بالله عليكم كيف كانوا يعيشون بها؟

هل تعرفون أن متوسط عمر المصريين فى أوائل الخمسينيات لم يتجاوز 40 سنة وتحديدا 38 سنة وسبعة أشهر؟

هل تعرفون أن «القرش» كان مشروع مصر القومى فى الأربعينيات، أى التبرع بقرش صاغ لمقاومة الحفاء، لأن غالبية المصريين يمشون حفاة، خاصة فى الريف الذى يمثل 70% من المصريين؟ هل تعرفون أن ميزانية مصر فى عام 1950/1951 كان مقدارها 205٫988٫900 جنيه بعجز بلغ خمسة وعشرين مليونا وتسعة وثلاثين ألفا وثلاثمائة جنيه، حسب وثيقة القانون رقم 136 لسنة 1950، بربط ميزانية الدولة للسنة المالية 1950- 1951؟

هل تعرفون أن ميزانية مصر سنة 1969/ 1970 كانت مليارين و414 مليونا وستمائة وسبعة وخمسين ألفا وتسعمائة وتسعة وثمانين جنيها، بعجز أربعة وثلاثين مليونا وستمائة وثمانية وثمانين ألفا ومائة وخمسة وتسعين جنيها؟، وقتها مصر كانت تعيد بناء قواتها المسلحة، وتخوض حرب استنزاف شرسة؟، فى الوقت نفسه أصبحت مصر مدينة لأول مرة بمبلغ مليار وستمائة مليون دولار، معظمها مشتريات أسلحة، وكان سعر الدولار وقتها 40 قرشا، أى كانت الديون تعادل 640 مليون جنيه فقط، وأتصور لو حسبنا تكاليف بناء السد العالي، مصنع الحديد والصلب، مصانع النسيج والكوك، الأسمدة كيما، الكابلات الكهربائية، إطارات السيارات، عربات السكك الحديدية سيماف..الخ، لعرفنا ماذا حدث، إذ قال البنك الدولى فى تقريره رقم 870 إن مصر حققت نموا من عام1957 ـــ 1967 بلغ ما يقرب من 7% سنويا، أى أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة عليه.

والسؤال الطبيعى الذى يفرض نفسه: أين ذهبت عوائد هذه التنمية؟

بعيدا عن الاستثمار فى الصناعة..أذكر مدرسة قريتى الابتدائية، كانت مبنى قديما آيلا للسقوط من الطوب النئ، لم التحق بها أبدا، وإنما التحقت بمدرسة بناها جمال عبدالناصر، هكذا كنا نصفها، مدرسة نموذجية، فصول حديثة، حوش يتسع لملعب كرة قدم وكرة طائرة وكرة سلة، ولم نكن نعرف معنى كرة السلة، مكتبة ضخمة، صالة جمانيزيم، حديقة أزهار بلدية، وبعد الفسحة يوزعون علينا عيش وجبنة وحلاوة طحينية وبيضة مسلوقة، تداوى سوء تغذية التلاميذ!

باختصار قلب عبدالناصر حياة بسطاء الناس من أهل وطنه من الحال الضنك إلى حال المستورين نسبيا.. ولهذا حين مات رأيت عشرات الملايين تودعه، لم أصدق حين رأيت كل ما بناه ينهار دون أن يدافع عنه هؤلاء الذين عمل من أجلهم ونقلهم من العوز الشديد إلى الستر المقبول، أو من حافة الفقر إلى الطبقة الوسطى، كنت أتعجب كيف أهملوا أو أفسدوا ما صنعه حتى صار عبئا؟، كيف سمحوا بانهيار التعليم الذى كان سلم الصعود الاجتماعى لهم؟..كيف وكيف. نعم أتصور أن المصريين خانوا عبدالناصر بكل سهولة وهو فكرة ومشروع وليس مجرد زعيم، فانهارت الفكرة وتبدد المشروع بعد موته؟.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية