تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
المصريون وأحلامهم المؤجلة!
تأملت العنوان مليا، العنوان مستفز وربما موجع، ويحرض على التساؤل الفلسفي: لماذا يروى كاتب سيرة ذاتية لجيل آماله مؤجلة؟، هل إحباط جيل فى تاريخ أمة ممتدة فى الزمن يستدعى أن يدون وينشر على الملأ؟، ألا يشيع بين الناس بعضا من البكاء على أطلال تلك الآمال؟.. هل هو جيل كان يحلم بالنجاح والثراء والمناصب والشهرة والمجد الشخصي، فلم يحقق إلا القليل؟، هل الآمال المؤجلة تستحق الكتابة؟
الإجابة القاطعة نعم.. لأنها آمال فى الحرية والعدالة والحق والخير والصدق والشفافية والتحديث والتنمية والعقل الناقد المنظم، آمال عريضة بأن يكون الوطن منارة متقدمة ومحلا للسعادة لكل أبنائه، كما تمنى رفاعة الطهطاوى حين عاد من رحلته الباريسية فى أول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكما تأجلت آمال رفاعة الطهطاوى تأجلت آمال الأجيال التالية حتى جيل خالد منتصر.
كانت آمالا مشروعة وبدت دوما قريبة من الاقتران بالوطن أكثر من مرة، لكن جحافل الجهل والظلام والعتمة والعنف والنفاق والغبن والباطنية والأوهام والصراع الطائفى والعقل الانطباعى قيدتها بسلاسل من فولاذ، وألقت بها فى بئر الماضى بنظمه وتراثه وتقاليده وأفكاره، ولأن الكاتب حالم ومازال يرفرف بجناحيه فى الفضاء، قرر أن يخاطر بالقفز «خلف خطوط الذاكرة»، ينتقى منها ما يساعد على الفهم والتفسير وتجنب المزالق، لعل أجيالا قادمة تنزل إلى البئر وتفك أسر هذه الآمال وتعيشها واقعا فى حياتها.
هذا ما استشعرته وفهمته من كتاب الدكتور خالد منتصر «خلف خطوط الذاكرة»، بالرغم من تأوه المشاعر ونزف الحروف وشجن العبارات التى كتب بها ذكرياته، كان صادقا متألما ومؤلما، إذ فاجأه الوجع والموت وفراق الأحباب مبكرا، اخته الصغيرة غرقا فى الترعة وأمه الشابة مريضة روماتيزم القلب، فتساءل: لماذا أنا؟، ولم يعثر أبدا على إجابة تريح عقله، ثم تعامل مع الموت والجانب المُعَذَب من الحياة وجها لوجه، وهو طبيب امتياز فى قسم الحروق بمستشفى قصر العيني، حالات صعبة إنسانيا، أوجعها البنات الصغيرات اللائى يولعن فى أنفسهن اعتراضا على قهرن بالزواج وأشياء أخرى، ثم وهو طبيب مُكَلف بالوحدة الصحية فى ريف تملأ الشعوذة أيامه، وبعدها موت أحباب الفكر والثقافة: أمل دنقل وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور وفرج فودة. وقد صور خالد منتصر نفسه مقاتلا من هؤلاء الذين يعملون خلف خطوط العدو، فرحل خلف خطوط ذاكرته، يقتنص منها أحداثا تنير لنا البئر التى أُلقيت فيها الآمال، لعلنا نتشجع وننقذها كما أنقذ الرعاة العابرون نبى الله يوسف من البئر القديمة. حكايات منتصر عن عائلته قليلة، الأب والأم والأخت، اصطاد أحداثا تشبه الريشة التى ترسم الملامح التى كونت أعمدة شخصيته، واصب اهتمامه على العائلة الأكبر:
1- قرية الشعراء التى عاش فيها أربع سنوات بعد زواج أبيه بأخرى وسفره إلى ليبيا للعمل،إذ فضل البقاء بها، والقرية هى المادة الخام لمصر، وفى الشعراء نتعرف على دمياط وأهلها وجزء من عالم الموبيليا والأزمات التى تهبط عليه أحيانا، وحياة الناس اليومية بين الكتمان والمكاشفة، الحياء والجرأة، النفاق والصراحة، التقاليد البالية والعصر الحديث..وهناك اختار العزلة، فصنعت له القراءة عالما موازيا ساحرا، وعرف قيمة الكتابة فى رسائل غرام كتبها باسم عاشقة إلى خطيبها على جبهة القتال قبل حرب أكتوبر 1973.
2- الجامعة التى تعلم فيها سبع سنوات، والجامعة هى عقل مصر، كيف تفكر، كيف تدرك، كيف تتحرك، كيف تنمو، وإذا كانت القرية فيها أحوال معوجة، فهى معذورة، الجهل تنين بألف رأس والخرافة جسر الفرار من الواقع، والفقر عجز فى القدرة، فما هو عذر الجامعة فى الأحوال المعوجة وهى تملك كل سبل المعرفة والقيم العلمية؟
والجامعة عند خالد منتصر لم تكن كلية الطب فحسب، كانت عالما متكاملا، كليات علوم وإعلام وآداب واقتصاد وسياسة, العلوم درس فيها سنته الأولى قبل أن ينتقل إلى قصر العيني، الإعلام عرف فيها مذيعين وأدباء وشعراء، الآداب اقترب فيها من أساتذة نقد ولغة، الاقتصاد شاهد فيها زعيما طلابيا متمردا، الطب حصل منها على شهادة المهنة وشكلت وعيه العملي.
لم تكن الجامعة عالما مستقيما سلسا، كانت منارة فى جانب، وبحر ظلمات فى جانب آخر، المنارة يمثلها هؤلاء الذين يحلمون بمصر وطنا حديثا متقدما مستنيرا يسابق عصره، أما بحر الظلمات فيسيطر عليه قراصنة الدين والجماعات الإسلامية والأساتذة المتعصبون وتجار الحياة، ولم يستطع ضوء المنارة أن يبدد ظلام القراصنة، الذين يظنون أن السماء منحتهم توكيلا سريا بوأد أى فكرة مختلفة، وإسكات صوت الموسيقى وحوار المسرح وصور السينما وحروف المقالات المناهضة لهم..الخ.
3 ــ عالم الصحافة واليسار، عالم مضىء عند خالد منتصر، لأن فى الصحافة يختار الكاتب المدرسة التى تسمح له بحرية التعبير والاختلاف، وبالتالى لا يواجه استبدادا فكريا، واليسار بطبعه ميال إلى النقد والمعارضة، وخالد نفسية متمردة على المألوف والعادى منذ نعومة أظفاره، ويتعرف على فرج فودة ويعيش معاناته حتى يغتاله القراصنة، فهم لا يستطيعون أن يدحضوا فكرة بفكرة فيلجأون إلى الرصاص يحمون به قديما صدأ لا يصمد أمام العقل الناقد. نحن أمام دعوة للتأمل والبحث وإحياء الآمال المؤجلة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية