تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الحكومة هى كلمة السر
فى تاريخ البشر تساؤلات شائعة، غالبا ما يلوح بها المرء فى حوارات عبثية، تستهدف الجدل لا الحقيقة، منها سؤال: البيضة أم الفرخة أولا؟، سائله يتصوره سؤالا تعجيزيا يجبر به محاوره على الصمت، وفى الحقيقة السؤال ساذج وإجابته سهلة ومتاحة منذ الأزل وهى «إن الفرخة أولا»، فإذا كان السائل مؤمنا، فالله سبحانه وتعالى خلق الكائنات جميعها مكتملة النمو حتى لو تطور بعضها بعد ذلك وأخذ أشكالا أخرى، وإن حافظت على نمط تناسلها، وإذا كان فارا من رحمة الله، فالمنطقى أن الفرخة هى مصدر البيض. وأصل الحكاية.. كنت فى جلسة مع مجموعة من الأصدقاء، وفجأة انطلق السؤال مثل حجر طائش: من المسئول أولا عن أى أزمة عامة فى حياة الناس وحلها؟، الحكومة أم الشعب؟، أو بمعنى أشمل..من أين تبدأ الخطوة الأولى للتقدم والتنمية المستدامة وامتلاك سبل القوة والحضارة؟
نظرت ناحيته مغتاظا من محاولته إفساد سهرتنا، ابتسمت: هذا النوع من الأسئلة تنعدم فيه الوجاهة كالذباب الجبلى الرذل، مع إن إجابته بديهية!.. غضب صاحبي، حاول أن يرد بعبارات مهذبة: فلسفة فارغة منك، «عاوز» أعرف أسباب تخلف أى أمة عن ملاحقة ركب الأمم المتقدمة: هل الحكومة أم الشعب؟، فنحن نسمع عن شعوب عاداتها وأنماط حياتها لا تمت للعصر بصلة، ونمط الحياة ليس «الأساليب» وإنما طرائق التعامل مع عجلة الحياة تفكيرا وتخطيطا وتنظيما ومواجهة عوادم تشغيلها، ويقال إن شعوبا فى العالم الثالث مهما بذلت حكوماتها من جهود لانتشالها من وهدة التخلف لا تتخلى عن هذه العادات وأنماط حياتها، وممكن أن نضرب أمثلة بشعوب فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية..ويقال أيضا إن «محصلة قوة أى مجتمع» هى محصلة كفاءة أفراده، أى أن الفرد والمبادرة الفردية هما الأساس، وإذا أصلح الفرد من نفسه، يمكن أن ينصلح حال مجتمعه ودولته ويقفزون معا إلى الأمام. اعتذرت لصاحبى قائلا: تصورت أنك تنكت أو تهزر، لأن سؤال الحكومة والشعب، يشبه سؤال الفرخة والبيضة، وتاريخ البشرية أجاب عن هذا السؤال باستفاضة، سواء عمليا منذ مينا موحد القطرين، أو فى كتابات فلاسفة الإغريق.
طبعا لا غنى عن دور الفرد، فالمجتمع يتكون من أفراد، وجودة الإفراد أساس جودة المجتمع، لكن الحكومة هى ماكينة التشغيل التى تشد أوطانها إلى التقدم، مصنع الطاقة الذى ينير الطريق، هى التى تصمم نظم الجودة لأفرادها، وهذا لا يمنع من بروز استثناءات من أفراد فى غاية الموهبة والمهارة والإبداع فى مجتمع متخلف، لكنها حالات فردية محدودة الطاقات، هكذا علمنا التاريخ، من أول حضارة مصر القديمة إلى حضارة الغرب الحديثة، مرورا بإمبراطوريات الإغريق والرومان والفرس والعرب..الخ.
الحكومة هى كلمة السر، وإلا انتفت أسباب تأسيسها فى الجماعة الإنسانية، والمصريون القدماء هم أول من اخترعوا الحكومة، لتنظيم نهر النيل، فالنيل يفيض ويغرق الأرض، وهو قوى طبيعية جبارة، لا يمكن التصدى لها إلا بعمل جماعي، والعمل الجماعى يحتاج إلى شكل إداري، يضمن كفاءة فى مواجهة خطر الفيضان وتنظيم الزراعة واستغلال موارد البيئة. باختصار الحكومة هى التى تضع قواعد تنظيم السلوك وتنفيذ القانون. حتى الحضارة الأوروبية الحديثة بدأها أمراء وملوك عصر النهضة بفتح كل النوافذ للمفكرين والكتاب والفنانين أن يبدعوا أفكارا جديدة ويأسسوا ثقافة مختلفة فى مواجهة ثقافة متخلفة زرعها رجال الدين.
قاطعنى صاحبى معترضا: هذا تاريخ، والعالم تغير فى ألفى سنة وتغيرت أشكال الحياة وتعاظم دور الفرد فى النظام الرأسمالي، أذهب إلى مجتمع غربى ترى الناس تحسن التصرف فى الغالب دون أن تقف الحكومة على رؤوسهم.
قلت: هذا صحيح..لكن الحكومة هى التى وضعت نظاما عاما لإدارة البشر والموارد ونفذته بعدالة وصرامة وكفاءة، فتحولت سلوكيات وتصرفات شعبها إلى عادات، والحكومة لا تعنى فقط الأشخاص الذين يتولون المسئولية فى أى عصر، إنما تعنى أيضا النظام العام الذى يدير حياة الناس وثروات الطبيعة فى أوجه الأنشطة المختلفة وأهمها، مستندا إلى نظم مكملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فإذا كان نظاما كفئا وعادلا فى توزيع عوائد العمل والثروة ومنتجات الثقافة على شعبه، يرتفع باضطراد مستواهم فى الأمن القومى والشخصى بالتعليم والصحة والإسكان والبيئة والنقل..الخ، كما يحدث فى الغرب أو اليابان أو كوريا الجنوبية أو الصين أو سنغافورة وغيرها من الدول التى تتمتع بقدر من الرفاهية وتوفرها لأكبر عدد ممكن من مواطنيها. ويلعب النظام السياسى فى العصر الحديث حجر الزاوية فى كفاءة النظام العام، لأنه يمس حريات المجتمع وحقوق الإنسان وكرامته.. وبالطبع لم يعرف البشر نظاما سياسيا «كامل الكفاءة»، إذ لا يوجد أصلا، فالنظم فى حالة تطور دائم، لا ستيعاب احتياجات الإنسان المتزايدة بالتقدم التكنولوجى والمعرفي، والتطور ليس اختيارا يمكن تجاهله، بل هو جزء من طبيعة الحياة.
وأهم عنصر مهم فى فاعلية أى نظام هو قدرته على محاسبة نفسه وتقييم ما يصنع فى حياة الناس، وهذه المحاسبة هى «جهاز التنقية» من عوادم التشغيل: كالفساد واستغلال النفوذ، وإلا فالعواقب وخيمة فى أزمات ومشكلات وتقزيم البناء المؤسسى لمصلحة اشخاص وجماعات وفئات معينة، ومعيار الكفاءة الوحيد هو مستوى معيشة الناس، وهى تتكون من عناصر ملموسة ولا يترك التقدير للأهواء سواء دعايات المؤيدين أو سهام الخصوم، والشعب هو الحكم بأدواته المعيشية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية