تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > نبيل عمر > الجراح وحكاية «أم سماح»!

الجراح وحكاية «أم سماح»!

تصورت من عنوان الكتاب «فورمالين..المرأة التي هزمت السرطان»، أنه عن مريضة تمكنت بإصرارها وحبها للحياة أن تواجه الوحش أو المرض الخبيث كما يسميه أهلنا البسطاء وهم يستعيذون بالله منه، وتهزمه شر هزيمة.

 

هكذا تصورت، لكن المؤلف الدكتور جمال مصطفى السعيد يأخذنا إلى فضاءات أرحب، فيسرد الحكاية، كما لو كانت بوابة مخفية إلى عالم أوسع، عالم جراحي الأورام، طبائع المصابات بالسرطان وعائلاتهن، تاريخ المرض الخبيث نفسه، وكيفية التعامل معه، تجربة إنسانية عريضة، كفنارة تضىء الممرات الآمنة، ليمضي فيها الإنسان إذا ما صادفه الوحش وحاول أن ينفرد به.

والدكتور جمال أستاذ جراحة ذائع الصيت داخليا وخارجيا، يذكرنا من أول سطور الكتاب، بالدكتور مدحت بطل رواية «نادية» ليوسف السباعي، التي تحولت إلى فيلم سينمائي لعب بطولته أحمد مظهر وسعاد حسني وأخرجه أحمد بدرخان..

وقد رسم يوسف السباعي بعض ملامح شخصية الدكتور مدحت في بدء ظهوره على سطح الأحداث، من خلال حوار ساخر بين شلة نادي الجزيرة «صبري وعصام ونادية»،، وهم يراقبونه وهو يلعب الكروكيه مع ارستقراطية حسناء مطلقة دون أن يبدي اهتماما بها.

صبري: إنه عبقرى..هل تصدق أنه أجرى بالأمس أمامنا عملية لمدة ثلاث ساعات أزال بها المثانة لأحد المرضى، وأول أمس رأيته بعيني يزيل معدة مريض آخر، وفي الأسبوع الماضي قطع أربعة أزوار (جمع زور)!

التفت عصام في دهشة إلى صاحبه، وتساءل قائلا: أيشتغل جزارا؟!

لم تتمالك نادية نفسها من الضحك..

أجاب صبري في غيظ: «جزار يا غبي!..إنه جراح..أكبر جراح عندنا في السرطان..لا يجيد المجاملة..ولذلك يسمونه الجزار.

- راجل أليط.

هذا الوصف الأخير عن الجراحين هو ما بدأ به الدكتور جمال كتابه، فبعض الناس، ومنهم أطباء أيضا، تنظر على غير الحقيقة إلى الجراحين باعتبارهم كيانات متكبرة، متعجرفة، يتصفون بالغرور..

والسبب في رأي الدكتور جمال راجع إلى الصفات الشخصية التي يجب أن «يتمتع بها» الجراح الشاطر؛ التفوق، الذكاء الحاد، روح التحدى، القدرة على القيادة، استعداده لقضاء ساعات طويلة بين الكتب والمراجع، وداخل مشرحة الموتى وغرف العمليات، غارقا في عالم من الدم والبول والبراز.

والجراح لا يمكن أن يعيش حياته مثل الإنسان العادي، خاصة جراح الأورام، فالناس تخاف أن تواجه الوحش دون أن تجد «جراحها» في أي لحظة تحتاجه، أيا كانت مشاغله أو ظروفه أو مكانه، ولم يكن غريبا أن يكون حلم الدكتور جمال هو «النوم ساعات كافية»، فأزمة الجراحين هي قلة النوم، لأنهم «يشيلون» هَمْ مرضاهم معهم أينما ذهبوا، فالقلق على مرضاهم بعد الجراحة يصاحبهم بالإكراه، خاصة من المضاعفات المعترف بها علميا والمرتبطة بطبيعة المرض أو حالة المريض الخاصة، ولا يعترف بها أهل المريض، فإذا حدثت فالويل للطبيب كأنه هو الذي جلب هذه المضاعفات معه إلى المريض!.

كانت هذه مقدمة ضرورة، لنفهم حالة الست أم سماح التي هزمت السرطان، فالدكتور جمال كان في طريقه إلى إجازة العيد مع عائلته، وهو معتاد أن يتوقف عن الجراحة قبل أسبوع من أي إجازة، لكن الحاجة فيفي، مع أنها على وشك مغادرة المستشفى بعد عملية ناجحة صرخت فيه وهو يودعها: (لا ما ينفعش يا نور عينيا، هو الدكاترة بتاخد اجازات، أمال ملايكة رحمة إزاي، مقلتش ليه قبل ما تعمل العملية)!.

بلطافة زاغ منها الدكتور جمال، وأخذ الطريق الصحراوي مع العائلة إلى الإسكندرية، لكن التيلفون لم يتركه في حاله، رنين ولا سرينات قطار سريع يجرى على سكك حديدية تمر وسط حي شعبي، لم يرد، لكن رسالة على الواتساب أزعجته: المريضة حياتها في خطر!.

كانت «سماح» على الطرف الآخر تحدثه عن ورم أمها وحالتها، حاول أن يهدئها بإجابات صارمة، فالحالة عادية، ورم في الثدي يمكن أن يتحمل يومين ثلاثة إلى أن يعود، لكن سماح لم تقتنع ولا أبوها، فأغلق تليفونه وأكمل طريقه إلى البحر، وبدأت العائلة في إنزال الشنط، فإذا بالمستشفى يطلبه: أم سماح جاءت عن طريق الإسعاف حسب طلبك لدخول غرفة الرعاية المركزة.

فأسقط في يده، ترك عائلته وركب سيارته للخلف در، ومن إرهاقه توقف ليشرب فنجان قهوة يعينه على الصمود، لكنه شرب القهوة ونام في الكافيه ساعة، حتى أيقظه الجرسون طالبا الحساب، لانتهاء ورديته. فعلا كانت أم سماح تعاني سرطانا في الثدي، معها زوجها تاجر الماشية وابنتها سماح التي على وش زواج وخطيبها، الكل في حالة رهاب، فاسم السرطان مرعب ومعاناته النفسية هائلة، عينات وتحاليل واشعات وانتظار وخوف وانفعالات.

كان الله في عون هذه الأسرة، فالدكتور جمال رسم صورة نفسية دقيقة لما يمر بها أفرادها، خاصة أن سرطان أم سماح كان من النوع الوراثي، ويمكن أن ينتقل إلى ابنتها.

حكاية إنسانية في غاية الرهافة، مشاعر مشدودة على عود من لحم ودم، لا تعزف إلا ألما وحزنا وكآبة، مع أن المرض في أوله!.

وبالفعل أجرى العمليتين للأم والبنت تباعا، كان الزوج غائبا أغلب الوقت، فهو متزوج من امرأتين أخريين، وأم سماح على نيتها لا تعلم، وتتصور أنه يقضي معظم وقته مع أصحابه في المقهى، لكن بنتها كانت تعرف وتسهل له عملية التمويه والإخفاء.

بعد حكاية أم سماح بتفاصيلها المدهشة، يطير بنا الدكتور جمال بتجاربه وخبراته إلى عالم سرطان الثدي، الذي يستأثر بـ25 إلى 30% من النساء المرضى بالسرطان، رحلة تاريخية وعلمية ممتعة، أروع ما فيها أنه يزيل الخوف من سرطان الثدي، ويبث طاقات الأمل في علاجه والشفاء منه كأنه نزلة برد!.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية