تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

نعم اقتبست العنوان من برنامج تليفزيونى على قناة خاصة، البرنامج أفضل تفسير لعبارة شائعة لا يفهمها كثير من الإعلاميين: مذيعين ومعدين ورؤساء قنوات فضائية وهى «إعلام التنمية»، ناس كثيرة تظن أن ربط الإعلام بالتنمية يعنى برامج ثقيلة الظل والدم مليئة بالثرثرة بكلام سخيف، لكن برنامج الجدعان الذى يقدمه الصحفى محمد غانم ضرب هذا الظن الفاسد، وأثبت أن الجدية والجاذبية والتسلية يمكن أن يجتمعوا معا، من غير غناء ورقص واستظراف وحكايات شخصية من حياة المشاهير: طلاق وزواج وحب وصداقة وخيانة وضرب وخناقات وفضائح وألفاظ حارقة وأقسام بوليس، وراح يقدم تجارب فى التنمية تنشر الأمل والتفاؤل والقدرة، إنتاجا وعملا جادا وإبداعا في  الزراعة والصناعة، تجارب تفيد المجتمع والناس من أجل بناء مستقبل أفضل، ولا تستنزف أوقاتهم ووعيهم وقيمهم وجيوبهم أيضا!

 

هذا عن جدعان البرنامج الذى استلفت اسمه، وحق علينا تفسير الأسباب.

أما الجدعان الذين أقصدهم، فهم مصريون لا نعرفهم، هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى من يحتاجهم بسخاء ومحبة، والحكاية أن مواطنا مصريا نشر تعليقا على صفحة سفر بالفيسبوك: «لو سمحت سؤال من غير تريقة، أنا معى 1500 جنيه، ينفع أخذ الأولاد والزوجة ونسافر إلى أى بحر حتى لو يومين».

تعليق عادى جدا يعبر عن مدى المأزق الذى وقع فيه رب هذه الأسرة، وهو يريد أن يسعد أولاده يومين فى أى مصيف على قدر الفلوس التى فى جيبه!

طبعا  هذه الألف وخمسمائة جنيه نواة لا تسند زيرا ولا كوبا، فالبحر والهواء والشمس على الشاطئ لم تعد هبة طبيعية، وصارت «سلعا» تجارية، صحيح أن الله خلقها مجانا، لكن للشطارة  أحكاما ليس منها «المجانية».

زمان وحسب أفلام الأبيض والأسود، وربما فى أفلام ملونة قبل بداية الألفية الجديدة، كنا نرى الناس بالشماسى والكراسى تعبر شارع الكورنيش فى إسكندرية إلى الشاطئ القريب، تدخل وتحفر وتدق وتنصبها فى الرمل، وكلما ذهب المُصطاف وصحبته مبكرا كلما تمكن من نصب شمسيته بقرب مياه البحر، أيامها كان دخول أى بلاج من أول العجمى إلى أبى قير مجانا، إلا فى المعمورة والمنتزه، قد يتجادل معه بعض تجار الشواطئ الذين ينصبون شماسيهم أولا بقوة الذراع، ويؤجرونها للمصطافين، لكن العاديين ينجحون فى النهاية فى نيل نصيبهم من البحر، وفجأة انقلبت كل الشواطئ  من الحالة العامة إلى الحالة السياحية إلا قليلا، والحالة السياحية درجات، مثلا قبل عامين اصطاف صديق لي، موظف حكومى كبير، من هؤلاء الشرفاء الذين لا دخل لهم غير ما يتقاضونه من خزينة الدولة، فأَجَرَ شقة فى المندرة قبلي، سعرها الأسبوعى فى متناول «جيبه»، وعنده أربعة أولاد، فكانوا يدخلون فقط إلى الشاطئ الذى صُنف سياحيا من الدرجة المتوسطة، بمئتى وعشرين جنيها فى اليوم، نعم بالشمسية والكراسي، لكن التكاليف ارتفعت الآن.

يتصور مسئولو الإسكندرية أن أربعة أو خمسة شواطئ مجانية يمكن أن تكفى فى مدينة يتردد عليها ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مواطن فى فترة الصيف، وهو تصور قاصر، يحول الشواطئ المجانية القليلة إلى «سويقات فوضوية» على البحر، مما يدفع بالفارين منها إلى سماسرة البلاجات يمتصون دماء جيوبهم بشراهة.

بالطبع بورسعيد أو جمصة أو رأس البر أو بلطيم قد تكون أرحم نسبيا، لكن ليس بقدر كبير، وطبعا لا أتحدث عن شواطئ البحر الأحمر، فأغلبها قرى سياحية، والشواطئ العامة نادرة مثل العنقاء والغول والخل الوفي.

فأين يذهب هذا المواطن بالألف وخمسمائة جنيه سفرا وسكنا وأكلا وشربا وشاطئا لمدة يومين؟، أتصور أنه لو صادف فانوسا سحريا أو عثر على خاتم سليمان أو استدعى عفريتا من الجن تائها فى الفضاء، وسأله: ماذا يفعل؟، قد يستعطفه الجن أن يتركه فى حاله، وإذا أصر، ربما يرمى الجن نفسه على الأرض ويتمرمغ فى التراب صارخا باكيا: حرام عليك أن تطلب منى ما يفوق قدراتي، وقد يصر أن يعود محبوسا داخل الفانوس أو الخاتم رافضا حريته لعجزه عن الإجابة.

لكن مصريين جدعانا ردوا بكل محبة على مواطنهم، بـ«سبعمائة» تعليق سأختار بعضها، فقط سأعدل إجاباتهم العامية إلى اللغة الفصحى فى حدود ضيقة.

 قال الأول: الشقة موجودة على البحر فى إسكندرية مباشرة، قل متى تذهب، وليس لك دعوة بأى حاجة..

 قال الثاني: ممكن حضرتك تقول لى أين أنت، ومتى تحب تروح، الشاليه تحت أمرك من غير مقابل نهائي، وبراحتك أى مدة، وربنا يبارك فى أولادك وزوجتك وتسعدهم  دائما.

قال الثالث: فيه ناس قامت بالواجب فى الشقة، ينفع أن تقبل من أخيك لو أنت من سكان الهرم «فلوس» الاتوبيس أنت والأولاد، موقف الاتوبيسات عندنا، وأيضا طاجن مع كم قطعة حلويات من عندي، تحلون بها فى الطريق أو لما تصلون بالسلامة، والله لو معى أكثر كنت زودت فلوسك.

قال الرابع: احفظ الفلوس لمدارس العيال، لكن المصيف أى حد إن شاء الله يتكفل به، وتنبسط وربنا يكرمك ويسهل الحال فى هذه الأيام المتعبة، وإذا كان عندك مشكلة فى وظيفة، بأمر الله اضبطها لك معنا.

قال الخامس: أبعث لى على الخاص تفاصيل الوقت المناسب وتليفونك وسيبها على الله.

ولم يترك الأشقاء العرب الساحة للمصريين يظهرون فيها معادنهم النفيسة، والخاتمة من هلول سوار الذهب: أنا سودانية أعيش فى مصر من فترة، دائما كل المصريين الذين قابلتهم يعاملوننى بكل ذوق واحترام، لكن كله كوم وهذه التعليقات كوم آخر، أنا «عيطت» من جمالها، كل الحب لكم.

نعم مصر ـــ بالرغم من اى ظروف ـــ مليئة بالخير والجدعان.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية