تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
«البذاءة» ودرع المجتمع!
كتبت إحدى السيدات منشورا على الفيسبوك، تفسر به سبب إلغائها التعليقات على صفحتها، وقالت بالعامية وقد عدلتها إلى العربية: بعد السفالة وقلة الأدب والهجوم غير المبرر لأي منشور علمي أو غيره، أنا غير ملزمة أن يقرأها أولادي أو زوجي أو أمي وأبي، لا أحب أن يشوفوا شخصا يحبونه ويحترمونه يَتَهَزّأ من ناس لا ترتقي إلى درجة المروءة، ويهاجمونها بمنتهى الهمجية، ويسخرون منها، وهي لم تتخط أي أحد، هي فقط تكلمت بما يتعارض مع مفاهيمهم، استحى أن أصفهم بـ«الرجال»، نافستهم النساء في العمل، فتنافسوا في الطباع السيئة، اعتذر لمتابعيني، فأنا لا أحتمل هذا الضغط.
السيدة مهندسة زراعية، مهتمة بالبحث والتجريب والدراسات، وخصصت صفحتها لنشر الجديد من الآراء والأفكار في عالم الزراعة، فإذا بتعليقات «بذيئة» تطاردها، بعضها من أشخاص تبدو العلاقة بينهم وبين العلم والمعرفة كعلاقة الصحراء بالغابات الإستوائية، وبعضها يدعي العلم لكن كلمات أصحابها تنم عن تعصب وكراهية وسوء طوية!
والسؤال: هل عدم وجود ضوابط أخلاقية حاكمة على صفحات التواصل الاجتماعي يعني السفالة وقلة الأدب والتنمر؟
يبدو هذا صحيحا بدرجة كبيرة، والمسألة لا تتوقف عند تنمر أو سباب، أحيانا تتجاوزها إلى تكفير وتشكيك في الدين، ونشر شائعات تُحدث بلبلة واضطرابات ذهنية ونفسية، وتصل أحيانا إلى فبركة أصوات وتصريحات على ألسنة مسئولين وفنانين ورياضيين وشخصيات مشهورة باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي..
شىء جميل أن نتواصل، وأن نتشارك في حوار عام أو خاص على الشبكات الاجتماعية، فالتواصل ود ومشاعر وتنشيط للدماغ والذاكرة، بشرط بسيط للغاية، أن يكون صادقا وعلى معلومات صحيحة.
لكن نسبة كبيرة مما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أخبار العزاء والحروب ونتائج مباريات كرة القدم، لا صادقة ولا صحيحة، كما لو أن أصحابها كانوا «مزنوقين» فيها جدا، فهرعوا إلى صفحات الفيسبوك أو أكس أو تويتر أو «تيك توك»، لتفريغها وتخفيف أحمالهم، بغض النظر عن تأثيرها على الآخرين، تزكمهم أو تقرفهم أو تعكنن عليهم أيامهم، لا يبالون، فقط يهتم أصحاب هذه التعليقات أو البوستات بأن يرتاحوا ويتخلصوا من عبء يلح عليهم، ويضغط على أعصابهم!
باختصار صنعت شبكات التواصل الاجتماعي ما يمكن أن نسميه ديمقراطية الفضاء الإلكتروني، أو بمعنى أدق ديمقراطية الغوغاء، حرية تعبير غير مسبوقة تتسع إلى حد الفوضى غير الخلاقة، عالم مفتوح بلا ضابط أو رابط، سيل من المنشورات والتعليقات عديمة الصحة، في الدين والسياسة والتاريخ والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والقانون والفن والرياضة خاصة كرة القدم..الخ.
آراء يقذف بها أصحابها في وجوه الناس، كأنها أحكام مطلقة، وللأسف بعضها ينفذ إلى حد تشكيل رأي عام أو إشاعة مزاج عام يخالف الواقع.
هذه واحدة..في غاية الخطورة..
لكن المسيء والمهين هو هذا القدر من السباب والبذاءة، الذي يطاردنا أيضا على تلك الصفحات والفيديوهات، وقاحة تتجاوز الحدود إلى اغتيال الشرف، وتشى بأن بعضنا فقد الرشد والرشاد في الخصومة والمنافسة والاستظراف!
قطعا هذه حالات وسلوكيات لا يخلو منها أي مجتمع على كوكب الأرض، وإن اختلفت الدرجات من مجتمع لآخر، حسب أشكال النظم السياسية والاقتصادية الحاكمة لنشاطه، كما أن الإنسان نفسه صندوق من الألغاز والتناقضات والأحوال النفسية، تتراكم عبر سنوات طويلة من عادات وبيئة وتربية وتعليم وتجارب وتقاليد واحتياجات وأحلام وصراعات وتطلعات وطموحات، كلها تتفاعل تلقائيا دون توقف مع نظام عمل ومنظومة قيم يتبناها المجتمع ويضبط بها سلوكيات أفراده الخاصة والعامة، وبالطبع كل نشاط وفعل وحركة له عوادم، بعضها «سموم نفسية واجتماعية» على هيئة أفعال مشينة أو أفعال مجرمة، قد ترتفع نسبتها أو تقل حسب ماكينة المجتمع، المسماة نظامه العام، وقدرتها على صناعة فلاتر تمتص اكبر قدر من سموم هذه العوادم أولا بأول فلا يتسرب منها إلي المجال العام إلا القليل، الذي لا يلوث نهر القيم في المجتمع ولا يفسد تياره العام، فالكثير من هذه العوادم السامة يقطع الطريق على التنمية المستدامة والتقدم المتواصل!
إلى جانب هذا النظام العام الذي يستند إلى القانون في تنقية هذه العوادم بالدرجة الأولي، توجد تقاليد الجماعة وقيمها الشعبية وميراثها من الأعراف، وهي تعمل تلقائيا حين لا تتمكن شبكة التنقية القانونية من اصطياد أصحاب الأفعال القبيحة، فيحل عقابها «الشعبي» السلمي محل القانون، وتصبح هذه التقاليد والموروثات درعا إضافية تصد هجمات السفلة، لأن حرية التعبير على شبكات التواصل الاجتماعي كما قلت مفتوحة على مصراعيها، فضاء ممتد لا يحتل فيه القانون إلا حيزا محدودا لأسباب تتعلق بتعقيدات تكنولوجية وتعريفات قانونية، وهنا يمكن أن نلجأ إلى «هذا الميراث الشعبي» في مواجهة السفلة والكذابين على شبكات التواصل الاجتماعي، بأن نعزلهم عنا كما كان يفعل أجدادنا (زمان) مع جار سيئ السمعة، إذ كانوا يقاطعونه ويمتنعون عن التعامل معه أو مشاركته في أي نشاط اجتماعي، فلا يبقى أمامه إلا أن يُعدل من سلوكياته، أو يرحل إلى منطقة لا يعرفه فيها أحد.
باختصار كان المجتمع يشد أسوارا غير مرئية أشبه بسجن اجتماعي، يحبس فيها هؤلاء الذين يرتكبون الأفعال المشينة ولا يطولهم القانون، وهو الحارس عليها ومديرها، فيضمن أن التلوث الذي صنعه هؤلاء لا يمتد، ولن يصبح «نموذجا» مغريا يمشي على دربه آخرون.
وقد رأيت بنفسي بضعة نماذج من هذا العقاب الشعبي في قريتي، وأيضا في حي شعبي بالقاهرة.
هل يمكن أن نفعل ذلك مع السفلة والكذابين على شبكات التواصل الاجتماعي، أن نقاطعهم، لعلهم يعودون إلى قيم جميلة في التواصل يهدرونها عمدا؟
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية