تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > مودي حكيم > الهجرة غرام.. أم انتقام: مولد طبيب!

الهجرة غرام.. أم انتقام: مولد طبيب!

الزمان: منتصف الستينيات من القرن الماضي

المكان: مؤسسة روزاليوسف- الطابق السابع- مكتب المشرف الفني لمجلة صباح الخير. 

الدنيا خريف، والجو لطيف فنحن في شهر سبتمبر "أيلول"، وقد بدأت الدراسة في المدارس والجامعات، واتصال تليفوني من محمد أبو طالب المسؤول عن الأمن وصالة الاستقبال بمؤسستنا الجميلة ليخبرني أن هناك شخصًا بالاستعلامات آتٍ لمقابلة الزميل والصديق لويس جريس مدير التحرير، ولكن الأستاذ لم يأتِ بعد، وعندما اتصلوا به طلب منهم أن أقابل الزائر بالنيابة، دخل شاب مرتبع القامة إلى مكتبي يحمل عددًا من المغلفات الورقية، وضعها على طاولة مكتبي وعيونه تبتسم من خلف نظارته الطبية، ليقدم نفسه لي: هشام العيسوي طالب بالسنة النهائية بكلية طب أسنان جامعة القاهرة!
قالها مفتخرًا، ليوضح لي أنها أول كلية أسنان في إفريقيا والشرق الأوسط، وأنشئت عام 1925 وكانت مدرسة تابعة لوزارة المعارف العمومية وما زال موقعها بشارع السرايا بالمنيل، لم أفهم المقدمة التاريخية التي الصقها ببروتوكول التعريف بنفسه، فلعله يستعرض معلوماته التاريخية، وقبل أن يستقر التساؤل في رأسي، فاجأني بأنه يعشق الصحافة، ومتابع مدمن لقراءة مطبوعات الدار، وهوايته كتابة القصة القصيرة، إلى جانب دراسته العلمية، وقد وعده الأستاذ لويس بأنه سينشر منها ما قد يجده يصلح للنشر.

كان الشاب مثالا للثقة بالنفس، يعرف تماما ماذا يريد، معجب ومتشبه بالأديب الطبيب يوسف إدريس، ناولني مجموعة القصص القصيرة التي كتبها في عطلة الصيف الدراسية، تعارفنا.. استمتعت بالحديث معه فالشاب قارئ جيد غزير المعلومات والجلسة معه ممتعة، وكان اللقاء بداية علاقة صداقة جمعتنا لسنين طويلة.

حملت الأمانة للويس جريس، الذي استغرق بشغف في قراءة قصص طبيب وأديب المستقبل، وقرر نشرها تباعًا على فترات بالصفحات الأولى للأفيش الملون في حكايات صباح الخير. كان يوم تنشر قصة من قصصه تشع بهجة من الجامعة تعبر شارع قصر العيني تسبقه قبل أن يصل لروزاليوسف ليحصل على نسخة من المجلة ويقدم قرابين الشكر والامتنان فاسمه في الصفحة الأولى من الصبوحة، يدلَجَ لمكتبي ومن شدة بهجته وفرحته يذهب عنه لب عقله، ويتحول لطفل عاجز عن التعبير سلبت عنه كل بلاغته!

استمرت علاقة الصداقة بعيسوي، نلتقي مع فرحة النشر أو أن أصحبه لزيارة معرض فني لأحد أصدقائي الفنانين التشكيليين، يستمع ويستوعب ليتعلم قراءة اللوحات قراءة فنية، يسأل ليفهم ويتذوق ومتشوق لمعرفة المزيد، وتثقيف النفس... تخرج هشام العيسوي بامتياز وعين معيدا بكلية طب الأسنان، دعاني يوم تخرجه لاحتفل معه بنجاحه، يومها قدمني لعميد كلية الأسنان بجامعة القاهرة د. أيوب عامر أول عميد مصري للكلية أبو طب الأسنان في مصر والعالم العربي، في مكتبه استوقفتني لوحة خطية تحمل كلمات تقف عندها "معهدنا معبدنا وصلواتنا واحدة نصرة الشعب العربي ورفعة مهنتنا". شعار ابتكره ووضعه موضع التنفيذ، وطبقه في معظم كليات الأسنان التي تم إنشاؤها منها طب أسنان.. جامعة الأزهر.. جامعة الرياض.. وجامعات بغداد، دمشق، بنغازي ليبيا، عالم من العلماء المصريين قليل الكلام، لكن في كلمته بحفل التخرج، استوقفتني عبارة اطلقها من القلب وبإيمان شديد "أن الطبيب مدين لمجتمعه بما اتيح له من فرصة التعليم ويجب على الطبيب ان يرد هذا الدين بتقديم خدماته مجانًا لكل محتاج"، علمت من هشام العيسوي في الاحتفالية ونحن نقف في أروقة الكلية أن الدكتور عامر من الرواد والأعضاء المؤسسين للأكاديمية الأمريكية لأشعة الفم 1951 واول مصري والوحيد حتى اليوم الذي حصل على شهادة زمالة الكلية الأمريكية لأطباء الاسنان عام 1962، وهو منشئ تخصص جراحة الفم والأسنان قبل أن تنتشر في أوروبا عام 1952. 

تأثرت يومها كثيرا بالكلمة التي ألقاها العيسوي نيابة عن زملائه طلبة الدفعة، وشكر فيها أساتذته وعلى رأسهم العميد د. أيوب عامر الذين اعطوا الكثير، باهتمامهم بالطلاب كأبناء، غرسوا عقولهم بالأفكار الملهمة، وأناروا دروبهم بالعطاء واغتنام المعرفة، وزرعوا الأمل في نفوسهم النائمة، وجعلوهم متفائلين في هذه الحياة. كلمة وفاء احترمت فيها العيسوي كثيرًا. استأذنت مغادرا وفى قلبي فرحة من جيل أساتذة يغرزون كل جميل في طلابهم، ببصمة من نقاء القلوب ورقي الأخلاق.

بدأ العيسوي مسيرته العملية كمعيد بكلية طب الأسنان، والسعي لإثبات الذات والبحث عن التميز، ومعها قل إنتاجه في كتابة القصة، لكنه بقي متابعا وقارئا لكل إصدارات الصحافة المصرية، لكن لقاءاتنا لم تتوقف فكان يستمتع بإبداء الرأي في مقال أو تحقيق ومناقشتي في أغلفة الصبوحة وإعجابه برسومات الفنان جمال كامل ورسام الكاريكاتير حجازي. كانت الحياة جميلة، أجواء أدبية فنية مبهجة، وتجارب إبداعية ثرية، معارض ومسرحيات وإنتاج سينمائي غزير، وأعمال موسيقية مبهجة تفيض بالتفاؤل، وآلاف الكتب تخرج من جوف المطابع منتشية بجمالها وغزارة نتاج أدبي مغمور بالبلاغة والشعر والتجارب الجديدة، سجالات أدبية، وساحات شعرية، ومهرجانات شعبية، ومؤشرات بحركة تنوير جديدة. حيث كان جيل الرواد قد وضع بصماته الواضحة على الساحة الأدبية والفنية وأصبحت الظروف مهيأة بشكل مناسب لبروز جيل الشباب، فترة كانت من أغنى الفترات في تاريخ مصر المعاصر، ببروز المواهب المتعددة والأسماء اللامعة التي لم يخبُ بريقها حتى الآن. 

فجأة توقفت عجلة الحياة، ودارت عجلة الخذلان، وذقنا ملامح الجو العام ومرارة هزيمة النكسة، والمعاناة، وحالة انكسار انعكست على الشعب، انعكاس قبح السياسة وما سببته النكسة من انحراف أخلاقي على مشاعره المختلطة من الخيانة، الغضب، الغيرة والعلاقات غير الطبيعية وحتى القتل، جيل تملكته النكسة فأصبح حلمه الهجرة والهروب، لخّص الحالة كاتبنا الكبير نجيب محفوظ بقوله "لم يعد الوطن أرضا وحدودًا جغرافية، ولكن وطن الفكر والروح"، في روايتهّ "حب تحت المطر". 

بقدر ما فجرت النكسة الألم والمرارة والدهشة في النفوس، كانت فرصة هائلة للكتاب للتعبير عن هذه الأزمة بصورة مكثفة، وان اختلفت درجة صدقها تبعًا لوجهة نظر الكاتب، ومثلت النكسة نقطة فاصلة في حياة كثير من الشعراء ومثقفي مصر وقتها ومنهم الشاعر امل دنقل فهزت النكسة دواخله واخرج رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، كما كان لها أثرها على المسرح السياسي وطرحت أنواعًا من المسرحيات التي تؤلم وتعذب الذات العربية ابرزها "النار والزيتون" لألفريد فرج، "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" لسعد الله ونوس، "الجندي المجهول" لغسان مطر، كما بشرت النكسة بميلاد جيل جديد داخل أروقة الجامعات شرع في استعادة ميراث تجربة التنظيم الطلابي والحزبي في مصر، فبعد التاريخ المشئوم بأشهر اندلعت أولى المظاهرات السياسية الحقيقية داخل أسوار جامعة القاهرة. 

كان بطل قصتي يشارك في العمل الطلابي والتنظيمي مع زملائه وتلاميذه في المظاهرات الطلابية التي كان مسؤولا عن قيادتها في ساحة كلية طب الأسنان بالمنيل مع الأجيال الجديدة الشابة، وكثيرًا ما كان يأتي في نهاية النهار لروزاليوسف لينضم لمجموعة المحبطين من جهاز تحرير صباح الخير، والمجتمعين في غرفة لويس جريس و"مكلمته" الشهيرة كما أطلقت عليها، فبابه مفتوح لكل من يحمل أخبارًا جديدة حول الحدث الحزين، ونقل ما كان قد سمعه، وتوصل له من استنتاجات، أو أن يشارك في "المكلمة" التي يشارك الجميع فيها بالتحليل، والتفسير، والفتاوى أحيانًا من بعض الزملاء، فالجميع كانوا في شوق لمعرفة ماذا بعد! ولكن غالبًا ما كانت تنتهي الجلسة بكل ما هو يحزن ويفقد الأمل. ونذهب كل ليلة والإحباط تغلل وانتشر كالوباء في نفوسنا. 

لم يبق معنا د. هشام العيسوي كثيرا، وكان واحدًا من الجيل الذي تملكته النكسة فأصبح حلمه الهجرة والهروب. وكانت لندن عاصمة المملكة المتحدة مكان الهروب واللجوء.

... ولهجرته قصص وحكايات!  

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية