تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الهِجْرةٌ غَرَامُ.. أم اَنْتِقام
قصص الهجرة لأَرْضُ الله الوَاسِعَة، كثيرة لأنَاَس رفضوا الاستسلام لتجارب مؤلمة أهمَّتهم، وشغلتهم، وآخرين سافروا ركضًا دون تخطيط مسبق لها، فسلبت منْهم ما سلبته من الجهد والوقت في خضم سباقهم المحموم على مساحة العمر الضيّقة.
ما يبعث على الاستغراب، أن الغالبية التي تريد وتبحث عن الهجرة هم الحاصلون على الشهادات الجامعية، فهم يحملون مؤهلات للمنافسة والدخول لسوق العمل، ويستنزفهم يوميًا البحث عن عمل لائق، والواقع الاقتصادي الذي يجعل أحلامهم صعبة، فيتطلع لها فيما وراء البحر، رغم المخاطر المحدقة، ومغامرات الهجرة التي تنتهي أحيانًا إلى تراجيديا بالغرق في عمق البحر، بعيدًا عن الاهل، والذي قال فيه الشاعر الفلسطيني محمود درويش "هذا الشيء الممتد من الماء إلى الماء، لا هو وطن ولا هو خريطة". رغم المخاطر والصعاب وآلاف الدولارات المدفوعة للوصول لبلاد الأمن والعسل والأحلام، يغامر العديد من الأطباء والمتعلمين، لمغادرة الوطن بحثًا عن وطن، تاركين ذكريات تفيض بلحظات بكل ما تحمل من حلو الأيام ومرها، مستدعين جنود العقل لتحتل مساحات الحنين، آملين في عالم من العلم والمعرفة واحترام الحرية الفردية. لكن مع الاسف الكثير منهم بلا قضية.
إنني لست ضد الهجرة أو الاغتراب للاستفادة من خبرة بلاد سبقتنا علمًا وثقافة، أو لإصلاح وضع اقتصادي بعد يأس، على شريطة المشاركة أولًا بالعطاء والعمل في البلاد وآخذ الامور بجدية، وليس "التنبلة" والجلوس في المقاهي في انتظار الرزق، أو الاستسهال والعمل على "التكاتك" بحثًا عن الحرية بالهروب من الارتباط بمواعيد العمل، وترديد العبارات المدمرة "أصَحى وقت ما أحَّبْ، وانام وقت ما أحب!" وتعبير آخر مؤلم "هو أنا هشتغل عند حد عشان يتأمر ويتحكم فيه؟!". رغم أن الفرص متاحة، ونحن في أشد الحاجة لقوة عاملة.
الهجرة الداخلية في المهن، وهروب العمالة الماهرة في جميع المجالات بما فيها العمالة الفنية التخصصية ومنها قطاع المقاولات، وعدم الوفاء والانتماء، والالتزام بنظام عمل أفقد العديد من الصناعات قوتها البشرية وأدي إلى اغلاق العديد من الورش والمصانع الصغيرة، وانا شخصيًا شاهد على نماذج من أمهر الفنيين في مجال النشر والطباعة، وجدوا في "سواقة التوكتوك" حرية وانطلاق وكسل، ومرح وانبساط، وهاجروا اليها.
في المقابل وبشكل مختلف إيجابي، هؤلاء اللذين أتوا من الصعيد للقاهرة وهاجروا للقاهرة، لعدم توافر المشاريع وفرص العمل هناك، السوهاجي نموذجًا عمل بهمة ونشاط بالقاهرة بدءًا من حامل صندوق ماسح الاحذية على المقاهي والمصالح والمحاكم- بدخل يومي يصل لمائتي جنيه أو أكثر، ولم يخجل- إلى أكبر مقاولي البناء والتطوير العقاري، نجحوا وأصبحوا من كبار رجال الأعمال وأغنياء المحروسة. هاجروا للداخل.. استفادوا وافادوا.
الخطر قائم والتجريف المنظم للوطن في فقدان أعز ما يملك من أبنائه، والخسائر المادية بمليارات الدولارات نتيجة هجرة الشباب من علمائنا واطبائنا من حملة الدكتوراه والاستيطان بالخارج مستمر، تدعونا لاحتضان هؤلاء وهم في أشد الحاجة للدولة أن تعطيهم اهتمامًا متزايد للبحث العلمي والتطور وتوفير كل الإمكانيات اللازمة لإيجاد بيئة حاضنة ومشجعة على الإبداع والابتكار.
عندما تراجع الاقتصاد الالماني في السنوات الاربع الأولى من هذا القرن ضخت الحكومة الألمانية 8 مليارات يورو في البحث العلمي، قاطرة التنمية، وهم يعتبرونه صناعة، والهدف هو تسريع عجلة التنمية الاقتصادية.
إن غاية كل بحث علمي جاد تتمثل في تغيير المجتمع إلى الأفضل وجميع أوجه النشاطات الإنسانية تقوم على البحث العلمي، وأصبح التطور التكنولوجي في بعض الدول عصيًا على اللحاق به. في تقارير منظمة اليونسكو، بعض الأرقام كمثال عما يجرى. عام 1998 أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية 200 مليار دولار أمريكي في البحث العلمي. وكل مليون دولار تصرفها أمريكا على البحث العلمي ترتد إليها كعائد مباشر وغير مباشر مقداره 140 مليون دولار.
وفي اليابان كان الإنفاق في نفس العام 73 مليار دولار وكان عائد المليون دولار 124 مليون دولار. وفي دول الاتحاد الأوروبي كان عائد المليون دولار المستثمرة في البحث العلمي 98 مليون دولار. إن هذا العائد الكبير إنما يرجع إلى عدة أسباب منها أن نتائج هذه الابحاث تجد التسويق الجيد والتشجيع من الحكومات. وأنفقت الصين نحو 40 مليار دولار على البحث العلمي، والهند 21 مليار دولار في ذات العام، وإسرائيل 5,6 مليار دولار، وكوريا الجنوبية 4.6 مليار دولار، ولذلك فإنه لا عجب أن نجد أن صناعات هذه الدول وعلومها تغزو أسواقنا وتُحَجِم نمو اقتصادنا.
الهجرة كانت دائمًا اختيارًا، لكنها اصبحت عند بعض الدول اضطرارًا، وواقعًا معاشًا، كما حدث في كثير من الدول العربية، ما واجهته الأسر العراقية بعد حرب الخليج، وموجات النزوح الأكبر التي وصلت إلى عدة ملايين من الأسر اليمنية، السورية، اللبنانية والليبية ومؤخرًا السودانية في اتجاه مصر وتركيا والأردن، بتحديات تؤثر في الحياة الأسرية والمجتمعية.
في رواية الاديب السوداني الطيب الصالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، التي مثلت وقت ظهورها؛ حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرواية العربية، وانطلاقا إلى آفاق جديدة في الثقافة العربية، فبعد أكثر من خمسين عامًا من ظهور الرواية، ولا تزال رواية موسم الهجرة إلى الشمال، كيوم ولادتها.
كتب الطيب صالح روايته أواسطَ الستينيات: "كانت مجتمعات العالم العربي وإفريقيا والهند وباكستان وبقية دول اسيا، قد خرجت لتوها من ربقة الاستعمار العسكري الطويل، مفعمة بالأمل في التخلص من آثاره المزمنة، أو من جرثومته- كما سماها في الرواية- التي تركها في نسيج هذه المجتمعات".
ضريبة الاستعمار هذه الكل دفع ثمنها، منتصرين ومهزومين. لم تُعد أوروبا محتفظة بما يسمى "هويتها الخاصة" في عالم ما بعد الاستعمار. لا يمكنك أن تستعمِر العالم وتجعله واحدًا ثم تجلس مرتاحًا في طرف قصيّ منه وأنت سعيد بقيمك وعوالمك.
بعض من هاجر أراد الانتقام، بصورة إيجابية، أراد الانتقام بنجاحه، وإثبات الذات، فالنجاح هو أفضل انتقام من كل ما ظلمنا واعتدى على حريتنا، ولم يقم لنا وزنًا أو تجاهل وجودنا في الحياة، وأنا أنصح دائمًا الأجيال الجديدة، دعوا آمالكم تنطلق لعلها تنشد يقظة تغري بحياة أفضل، حياة تتحرك على أعقاب الظلم والقهر والاستعباد، ومحاولة أعادة الاستحقاقات من المستعمر واحلامه الوهمية في تدمير الهوية الوطنية. أعطهم درسًا بالانتقام الصامت، أبهرهم بفن لا يتقنون معانيه، ونجاحٍ لا يجيدون تخطيه، فالانتقام بالنجاح أرقى أنواع الانتقام.. هناك قصة واقعية، بطلها طفل أوغندي اسمه "جوردن كينيرا"، عندما كان في السادسة من العمر، عاش أزمة نزاع بين والده مالك الأرض وجار لهم، وللأسف حكمت المحكمة للجار بالأرض، وشهد "جوردون" حزن والده وقرر لاحقًا أن يتحدى الظلم ويصبح محاميا فدرس 18 عامًا حتى تخرج، لينتقم بنجاحه، ويترافع في المحاكم حتى نجح في استعادة الأرض بعد 23 عامًا من فقدانها.
عند تعيين ريشي سوناك، خريف العام الماضي، رئيسًا لوزراء بريطانيا تساءلت أنا وغيري، حول ما حدث للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هل الوصول إلى هذا المنصب هو انتقام إيجابي متأخر للمهاجرين من الهند وآسيا للدولة العظمى التي احتلتهم لسنوات طويلة، وهل سوناك شخصيا يريد أن ينتقم لعائلته واجداده وبلده من الاحتلال الانجليزي. التساؤل منبعه فرح الهنود بتعيين ريشي سوناك، وهو هندوسي ممارس من أصل هندي، رئيسًا لوزراء بريطانيا- في لحظة حاسمة للعلاقات بين الهند والقوة الاستعمارية السابقة- وبعد أن أصبح أول زعيم بريطاني من أصل هندي ومن مستعمرة بريطانية سابقة.
نموذج ممن عبروا عن فرحتهم، شخصية هندية تعمل بوكالة الصحافة الفرنسية في العاصمة نيودلهي "أنا سعيد جدًا". وأضاف، "بريطانيا حكمت الهند 300 عام، والآن سيحكم المملكة المتحدة شخص من أصل هندي". وقال رئيس وزراء ولاية كارناتاكا باسافاراج بوماي "جنوب": إن الهنود المستعمرين من الإمبراطورية البريطانية لم يكونوا ليتخيلوا مطلقًا "تطورًا أكثر أهمية" من هذا التعيين. وأضاف، "لقد تحولت الأقدار"، ذاكرًا أن تعيين سوناك حظي بتغطية تلفزيونية واسعة في الهند.
وللهجرة الايجابية، والانتقام بالنجاح قصص وحكايات.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية