تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الصالح والطالح! (1/2)
من المأنوس من كلام قدماء العرب أن "الحظوظ أوقاتُ جودٍ، وأوقات ضِنةٍ".
ما زال هذا القول السني على مكانه من الرفعة، ولم يهتز منه حرف، حتى بعدما دار الزمان بالمجتمعات العربية هذا الدوران المتعجل، فما زلنا نأخُذُ أخْذَهُ.
وأوقات الجود في الغربة الباردة الموحشة، أن تلتقي في دربك "الصالح" من الناس، فيشد من أزرك، يبادلك العطاء بمثله، والمودة الصادقة الخالية من الزغل بأحلى منها، يعينك وتعينه، ولا يضن عليك بالنصح، كريم متفضل، إن وَعَد أوفى بالوعد، ولا يبقي في ذمته مالًا تستحقه لقاء ما قدمته من عمل طلبه منك.
وأوقاتُ الضنة، أن يطرق باب رزقك "الطالح"، المتكبر، الصلف، المغتاب، النّمام، الذليل التابع، الذي لا ودّ له ولا رحمة.. فينظر إليك نظرة ملؤها الختل، معجون من خميرة من طمع وخبث، ومّكر ورداءة.
وفي الغربة، حيث احتشدت فيها أخلاط من الناس، يأخذ المرء كل ما يحيط به زمانه، أخذ العين من الضوء، والأذن من الصوت.
وأنا في غربتي الثانية في بلاد الإنجليز، أحاط بي "الصالح" من الناس، و"الطالح" منهم. ذقت حلاوة الأول وعلقم الثاني.
رَن اسمي في نبرات السكرتيرة، قطعت شرودي في الأوراق المفلوشة أمامي، كل ورقة من تلك الأوراق تلح علي بمطلب: إما توقيعًا، وإما تعقيبًا وتعليقًا، وإما حفظًا في الملفات، أو إتلافً في قطّاعة الورق النهمة.
رفعت رأسي، تملّيتها، تهالكت علامات الاستغراب على وجهها، مَسَحَت من شفتيها مشروع ابتسامة، تماوج صوتها:
"في قاعة الاستقبال رجل يطلب مقابلتك".
وتحامت الملامة، حبست لسانها بين فكيها، ولم تتفوه بكلمة، مدت يدها، أعطتني بطاقة الرجل المنتظر في قاعة الاستقبال.
"الدكتور منصور خالد"
قرأت الاسم بتمهلٍ في سري، لا شيء تحت ذلك الاسم المكتوب بخط فارسي بديع، يُفصحُ عن الرجل أكثر.. لحظات، قَلبت الوجوه والأسماء في رأسي، لم يكن الاسم غريبًا عني، قرأته مرارًا، وسمعت من يذكره أمامي مرارًا أخرى.
انطلقت عيناي تعبثان في فضاء الغرفة، تمور في ذهني الأسماء من جديد، وتتلاطم الوجوه، تأتي وتغيب، ويتكور السؤال في حلقي: "من تراه ذلك الرجل، أيكون السياسي السوداني الذي خاصم جعفر نميري، وعراه في مقالات كان لها رنين وطنين... إن كان هو، فما له بي؟".
سقطت عينا السكرتيرة في عيني، أعادتني إلى رشدي، هزني الفضول لأعرف من يكون الرجل، ومن دون أن يتحرك لساني بين فكي، أومأت لها، فهمت من الإماءة أنني سأقابل الرجل المنتظر في قاعة الاستقبال.
انتصب أمامي، قامة مسبوكة سبكًا، كأنما عمود من رخام أسود. عريض الصدر، وسيم. عينان عصيتان عن الوصف، تدوران في وجه داكن السمرة دقيق الملامح، وتلمعان ببريق حيوي أخاذ، فوقهما حاجبان كأنهما خُطّا بقلم، أنيق، ذواقة، وعلى الرغم من ترامي العمر به وقد ترك تحت عينيه تعب السنين، إلاّ أنه ظل على بهاء الطلّة ووقارها.
مَد يَدَهُ، صافحني، ترقرقت ابتسامة على شفتيه، طلع صوته خافتًا:
"تعرف... لولا اللافتة على المدخل، لما عرفت المكان".
لم يترك الاستغراب يستحوذ علي:
"سألت، قالوا لي أن محترفك في "سان جيمس"، ولم يذكروا لي رقم المبنى".
"يعرف كيف يكسر الجليد".. تمتمت في سري، لأحارب المفاجأة التي استحوذت علي.
اتسعت عينا الرجل الأسمر دُهْشَة، بدا كأنه لم يكن يتوقع أن يرى ما رآه: أقسام منظمة، مرتبة، آلات تثرثر وتهدر، وتكتكات الأصابع على مفاتيح الأحرف ترسم الكلام على شاشات الكمبيوتر، وحركة، فوارة لا تفتر ولا تهدأ، وهاتف يصيح برنينه الرتيب في أرجاء المكتب الوسيع.
كان بين الفينة والفينة يرفع فنجان القهوة على مهل، بالكاد تلامس حافته شفتيه، ثم يعيده إلى صحنه بحركة تنم عن رفعة في الذوق واللباقة.
وراح ينبسط على الحديث، يرسم لي صورة عنه، ويستفسر مني عني، وعن غربتي، وعن شركتي. ومن دون أن يقول ما كان يضمر، تركني أشعر بأنه جاء يتأكد مما سمع، عني وعن "مودي جرافيك إنترناشيوال"، من أفواه الناس، وأراد أن يتعرف أولًا على "الرجل المصري" الذي صار اسمه يتردد في أوساط الصحفيين العرب في لندن، ثم ليعاين بنفسه ما يجرى داخل تلك الشركة، المؤتمنة على أهم وأكثر مجلات العرب انتشارا، وهل هي جديرة بأن يتعامل معها؟!
وفي الوقت نفسه قصد أن يُعرفني عن نفسه أيضًا، وتركني من خلال تلميحات ذكية وهادفة، وإشارات خواطف من خلال تنقله في محطات حياته، أن أرسم صورة كاملة عنه، هو الجالس أمامي، بوقاره واعتداده بنفسه الذي طوحت به الأيام، فتغلب على غدراتها، ولم ينل الضيم منه، ولا أناخته عاديات الزمان.
من "حي الهجرة" في "أم درمان"، إلى كل الدنى. رحلة كدّ على الحق، جمع التقوى والعلم من جانبين: فجدّه لأبيه كان صوفيًا مالكيًا، وجده لأمه كان قاضيًا شرعيًا في المحاكم السودانية، ومن أتباع "الطريقة الشاذلية" المنافسة للصوفية، فتعلم من جديه احترام الاختلاف بين الناس.
في "أم درمان" تعلم "فك الحرف"، وتنقل في مدارسها في مراحله التعليمية، إلى أن انتهى في "كلية الحقوق" في "جامعة الخرطوم"، وكان جاره على مقاعد الدراسة الدكتور حسن الترابي، الذي صارت له، فيما بعد، شنّة ورنة!
ما أحب منصور خالد لبس "روب" المحاماة، ولا الوقوف أمام قوس المحكمة وقول "سيدي الرئيس وحضرات المستشارين"، فعلّق "روب المحاماة" الأسود، وعاف المهنة، فقذفه زمانه إلى لُجّة السياسة، وهو لم يزل في ريّقِ الشباب وليان العود، فعمل سكرتيرا خاصًا لرئيس الحكومة عبد الله خليل، الذي بقي في سراي الحكم وديوانها سنتين، أنهاهما له إبراهيم عبود.
لم يطِق العمل مع عبود، ترك المسؤولية الرسمية، والخرطوم، وكل السودان، إلى الولايات المتحدة، فالتحق برئاسة الأمم المتحدة، وتمكن من متابعة دراسته، فنال درجة ماجستير في القانون من "جامعة بنسلفانيا". أما الدكتوراه فأحب أن ينالها من باريس، التي أغوته فعشقها، وساعده المستشرق جاك بيرك على نيل منحة للتعمق في دراسة اللغة الفرنسية فتفوق بها، وسمح له تفوقه بتحضير أطروحة الدكتوراه باللغة الفرنسية.
شعر الدكتور منصور خالد بأنه أطال الكلام والجلسة، فوقف على مهل، زرر سترته. شعرت وأنا أدفن كفي في حضن يده بأن العواطف التي أبداها خلال الجلسة الطويلة صادقة، وليست مطلية من الخارج دهانًا غَرارا، وأصباغًا من ألف لون.
أينعت ابتسامة قطفها بشفتيه، فاهتزت لها ملامح وجهه، وقال في صوت منغوم عذب:
على فكرة.. نحن جيران، فأنا أقيم في العادة عندما آتي إلى لندن في "نادي سان جيمس St. James' Club"، وهو قريب من هنا، ما رأيك لو التقينا فيه غدًا بعد الظهر، فنكمل ما بدأناه؟"
شاعت الرغبة في وجهه، قبل أن يقول:
"إنني في الحقيقة، أرغب، وأتمنى لو عاونتني على إصدار كتاب فرغت من إعداده، وأصبح جاهزًا للنشر".
وسكت، أمسك وجهي بعينيه، وانتظر الجواب. ملأني الانتشاء.
"حاضر... حاضر".
كان هذا كل ما قلته له.
لا يرتاده إلا الأكابر، والمشاهير في السياسة والمال والأعمال. و"نادي سان جيمس" الذي يفتح أبوابه كل يوم منذ سنة ١٨٥٧، هو نادٍ خاص مقتصر على الرجال فقط، وفندق "خمس نجوم" لا يقاربه ولا يرتاده إلا المقتدر على سداد فواتيره. و"النوادي الخاصة Private Clubs" تقليد بريطاني عتيق.
في مقهى النادي- الفندق، كان الدكتور منصور خالد ينتظرني، ولا أخفي أنه هزني الاشتياق لسماع أحاديث ذلك الرجل، الذي يروعك منه وأنت تتحدث إليه وتصغي، وعيه الزمن بكل لحظاته، واستيعابه الأمور بكل دقائقها.
واستغربت في قرارة نفسي كيف يمكن لرجل، من هذه الخميرة والعجينة، أن يتعامل مع رجل مثل جعفر نميري، الذي وصل إلى الحكم فجر الخامس والعشرين من مايو (آيار) ١٩٦٩ ليعلن نفسه حاكمًا وسيدًا للبلاد، ويختار بابكر عوض الله رئيسًا للحكومة، التي ضمت- في من ضمت- الدكتور منصور خالد وزيرًا للشباب، ليتقلب بعدها على وزارة التربية والتعليم، ثم الخارجية، ويتولى معالجة القضايا الحساسة في البلاد.
"براجماتي من الطراز الأول".
ضحك، عندما وصفته، هز رأسه بالإيجاب.
"ما الغضاضة في ذلك.. عمري ما انجذبت إلى أي مدرسة فكرية أو أيديولوجية".
واستدرك وهو يفر أوراقًا، كان سحبها من ملف كبير أحضره معه:
"دراستي الأكاديمية والسياسية عززت في النهاية استدلالاتي وقناعتي، وتلك تكون بالحجي والتدبر فقط".
رفع من بين الأوراق عشرين ورقة، هي مقالات كان كتبها، ونشرتها له "جريدة الأيام" السودانية، قبيل انقلاب نميري، شعرت وهو يقرأ علي عناوينها كأنها ذكريات ما كان ومضى، مرت في مخيلته، فساوره الأسف، وقال كأنه يختنق من الغمّ:
"في هذه المقالات، توقعت، وكنت على صواب، زوال الحكم الديمقراطي في السودان، بسبب المشادات الحزبية، واستشراء الطائفية البغيضة، والانتهاك الصارخ لاستقلالية القضاء.. فلقد قوي الصراع بين السلطات الثلاث في البلاد: البرلمان، والحكومة، والقضاء، وهذا ما قوّض ثوابت الديمقراطية، وأفسد نظام حكم البرلمان".
لم يدُم قرب الدكتور منصور خالد من جعفر نميري طويلا. فقد كان يرى، يوما بعد يوم، انحراف العقيد، وتماديه في غيّه، ساعة يخطب ود اليسار، وساعة ينحر الشيوعيين، ويصالح ويساكن الإسلاميين. وفي كل ذلك، كان يعتقل، يأسر، ينكّل، يعذب و... يقتل، إلى أن وقع في شر تشريعاته، فبعد ما سُمي "قوانين سبتمبر" سيئة السمعة، انتفض السودانيون، وأُطيح بجعفر نميري.
وجد الدكتور منصور خالد في القلم والورق والحبر متنفسًا له، فنزل بسن القلم على الورق، يطالع الناس مع إشراقة الضوء، بمقالات ضافية، صافية، متزنة، النبرة والعبارة، وراح يكتب في "جريدة النيل"، لسان حال أنصار المهدي، ثم بعض المقالات في "جريدة المستقبل الشريف" المملوكة للشريف الهندي، و"الأيام"، وترك عددًا من الدراسات والمقالات على صفحات مجلة "الخرطوم"، ولفترة عمل من العاصمة السودانية مراسلًا لوكالة الصحافة الفرنسية AFP، وكتب باللغة الفرنسية لمجلة الحضور الإفريقي La Présence Africaine، التي أسسها سنة ١٩٤٧ السنغالي Alioune Diop، فكانت أول مجلة إفريقية باللغة الفرنسية.
ومضى الدكتور منصور خالد يسترسل، ويتمادى في الحديث، مشبوب النفس، مشغوف القلب، وأنا أصغي له بكليتي، لا أقاطع ولا أعترض، فشعرت بأنه أراد أن يشفي بكلامه شيئًا من غلة زمانه، فارتاح لي وراح ينفض كتمان صدره. إن الكثير مما قاله لي يومها، ليس هاهنا منفسح له، فهو باقِ على الزمان.
زفر الدكتور منصور خالد زفرة رنانة، حشر الأوراق في الملف، أطبقه، وأعطانيه:
"هذا ما أرغب نشره، أترك لك حرية التصميم، والمعالجة الطباعية، وتجهيز الأفلام، بحيث تكون جاهزة للطباعة التي ستتم في مصر، وفي "مطابع مؤسسة دار الهلال" تحديدًا، التي يرأس إدارتها صديقي الوفي مكرم محمد أحمد".
عنوان الكتاب "لا خير فينا إن لم نقُلها"، وهو يشتمل على مجموعة من المقالات كان كتبها في الفترة ما بين سنة ١٩٧٨ و١٩٨٠ حول الوضع السياسي في السودان. القسم الأول من تلك المقالات كتبها لمّا كان مساعدًا للأمين العام للاتحاد الاشتراكي، وتناول فيها بعض القضايا النظرية التي أوحت بها المصالحة الوطنية، مثل التوجه السياسي للنظام، والنهج الإسلامي.
أما القسم الثاني من تلك المقالات، فكتبها بعد تخليه عن نميري ونظامه، فناقش فيها بعض القضايا التي طرحها جعفر نميري وهو يتهم جميع أجهزته بالفشل، من دون الإشارة إلى مسؤولية القيادة الأساسية عن هذا الفشل الذريع الذي أدى إلى انهيار البلاد.
في اليوم التالي، قدمني لإعلامي سوداني هو محمد خير البدوي، الذي كان يعمل في القسم العربي في "هيئة الإذاعة البريطانية BBC"، الذي طلب منه مراجعة الكتاب، وتوطدت علاقتي به وبعائلته، وحفظنا، زوجتي وأنا، كل الود لهم، خصوصًا ابنته زينب التي أصبحت مذيعة في قنوات BBCالتلفزيونية، وكانت تدرس وقتها الفلسفة والسياسة والاقتصاد في "جامعة أوكسفورد" العريقة.
واستوثقت الألفة بين الدكتور منصور خالد وبيني، وطابت لنا المؤانسة، يتصل بي من باريس مرة، ومن الخرطوم مرات، وكلما جاء لندن كنا نلتقي، وتمتد بنا الجلسات، وينعقد الكلام حول مواضيع شتى.
في إبريل (نيسان) سنة ١٩٨٦، عندما انتشر خبر لقائه في "سد كوكا" بزعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، جون قرنق، أخذت أتابع تطورات ما قد يحدث، فبعد ذلك اللقاء أصبح الدكتور منصور خالد مقربًا من جون قرنق، وكان أن أطلق فكرة "السودان الجديد"، التي شكلت مشروعًا سياسيًا تبنته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" لحكم البلاد، والخروج من دائرة الحرب، في مقابل ما سماه الدكتور منصور خالد "السودان القديم"، الذي تمثله القوى السياسية التقليدية في شمال النيل، التي ظلت تسيطر على الحكم منذ الاستقلال، وتهمش الأقاليم السودانية الأخرى.
وعندما علت به السن، واشتدت عليه العِلّة، انقطع عني، ما عدت سمعت منه أو عنه، حتى وصلني نعيه في ٢٢ من إبريل (نيسان) ٢٠٢٠ برّد الله ثراه.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية