تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
أبو شادي وبطرس وأطباء "هارلي"!
هناك قصص نجاح لمهاجرين من رحم الأزمات، بعض من هاجر أراد الانتقام، ممن استعمروه، ونهبوا ثروات بلاده بصورة إيجابية، مصريون أرادوا الانتقام بنجاحهم، وإثبات الذات، فالنجاح هو أفضل انتقام من كل ما ظلمنا واعتدى على حريتنا، ولم يقم لنا وزنًا أو تجاهل وجودنا في الحياة... ومهاجرون الأمل والإصرار يلازمهم، يحلمون بما يريدون تحقيقه، شقوا الطريق ووصلوا، وحققوا أحلامهم وتحقيق طموحاتهم، هناك من أكمل تعليمه، فأتاحت لهم الحياة الجامعية اكتشاف ثقافة مغايرة، وضرورة الحوار والتواصل للاندماج في المجتمع.
.. وبدون ترتيب زمني، كان منهم أحمد زكي محمد أبو شادي ابن حي عابدين بالقاهرة، وكان والده محمد أبو شادي "بك" نقيبا للمحامين، وأحد أعضاء حزب الوفد البارزين، التحق بمدرسة في حي الحنفي بعابدين، وظهرت مواهبه الشعرية والأدبية في مرحلة الدراسة ثم أتم تعليمه الثانوي، وكان من تلاميذ مصطفى كامل في الوطنية، وبعدها دخل مدرسة الطب بقصر العيني، ولم تصرفه الدراسات الطبية والعلمية عن الاستمرار في دراساته الأدبية، فأحب الشعر وتذوقه، وأقبل على نظمه، ثم سافر إلى بريطانيا عام 1913 ليستكمل دراسة الطب, حيث أتقن اللغة الإنجليزية واطلع على آدابها. تخصص في علميْ: "الأمراض الباطنية" و"الجراثيم". واهتم بدراسة النحالة "علم تربية النحل".
ولم يشغله كل ذلك عن اهتمامه بالقضية الوطنية، والتوعية بجهود الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، ولما زار الزعيم «محمد فريد» لندن، نظم «أبو شادي» له حفل استقبال وحشد فيه شباب الوطن الدارسين هناك.
وهكذا كان الدكتور «أحمد زكي أبو شادي»، عدة رجال في رجل، وقف أيام حياته ولياليها على خدمة المجموع والعمل العام، أو كما قال:
أعيش لنوعي لا لنفسي وحدها
وأنشر روح الحب غير مبدد.
وقد امتدت إقامته في «إنجلترا» عشر سنوات، تزوج خلالها فتاة إنجليزية مثقفة، أحبته وهيأت له في «لندن» ثم في مصر بيتًا هادئًا هانئًا يزينه ويملؤه حبورًا أولاده الثلاثة: «رمزي، وصفية، وهدى». وقد كانت غربته الأولى هذه من أخصب سنوات عمره، فيها نهل كثيرًا من مناهل الآداب والفنون الغربية، وفيها أبدع أشعار الشباب التي بشرت بتوجهاته التجديدية في الشعر العربي، التي من أبرزها التعبير الرمزي والوجدان الفردي ووحدة القصيدة وتنوع الأشكال أو البحور والقوافي.
لكنه عاد إلى مصر مضطرا بسبب عدم تحمل الإنجليز لنشاطه الوطني ضد الاحتلال البريطاني لبلده، فعمل أستاذا بكلية الطب، واستمر يزاول مهنة الطب والتدريس حتى وصل إلى منصب وكيل كلية الطب بجامعة الإسكندرية، وشارك في تأسيس "معهد النحل الدولي"، كما أسس "جمعية آداب اللغة العربية".
أنشأ في عام 1932 مجلة "أبوللو"، و"جماعة أبوللو الأدبية"، ودعا إلى التجديد في الشعر العربي والتخلص من تقاليده، وكان من بين أنصار هذه الدعوة من الشعراء: إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، وغيرهم من مشاهير نهج مدرسة "أبوللو"، المعروفة بالرومانسية والقافية المتغيرة على طول القصيدة. لكن جماعة "ابوللو" واجهت نقدا لاذعا وحربا قاسية من الشعراء المحافظين التابعين لنهج مدرسة الإحياء والبعث، ومن أنصار التجديد، ومن هؤلاء عباس العقاد وإبراهيم المازني.
ضاق أبو شادي بالنقد الموجه له والهجوم المستمر عليه، فهاجر إلى الولايات المتحدة 1946 وكتب في بعض صحفها العربية، وعمل في التجارة وفي الإذاعة، وانتخب أستاذا للأدب العربي في معهد آسيا، وأسس مع آخرين رابطة أدبية باسم "رابطة منيرفا"- منيرفا هي إلهة الحكمة عند الاغريق- وهي رابطة أدبية على غرار "ابوللو"، ضمت مفكرين عربا وأميركيين. وفي مهجره لم تتوقف أشعاره عن ذكر مصر والحنين إليها، ومن إحدى قصائده أبيات قليلة منها:
مصر الحبيبة جنةٌ لا أشتهي
منها الخيار فخيرُها بجميعها
أهوى لها الإعزاز كيف تمثَّلت بحياتها وتصوَّرت بصنيعها
إن كان عاقَبني الزمان بغربتي
فلقد أفاء عليَّ حُلم بديعها
.. واذا تحدثنا عن الطب والأطباء فلا يكتمل الحديث عنهما دون ذكر شارع هارلي ستريت الذي ظهر إلى حيز الوجود في القرن الثامن عشر، عندما كانت لندن جزءا من قرية ماريلبيون التي أصبحت مكانا للأثرياء فيما بعد، والآن يعتبر هارلي ستريت في وسط لندن كجزء من مدينة ويستمنستر وقريبًا من ريجنت بارك، وشارع أوكسفورد، واصبح من أشهر الشوارع في مجال الطب الحديث والتجميل، كما له تاريخ عريق يعود لأسرة هوارد دي والدن للعقارات التي كانت تمتلكه يومًا، وكان دوق أكسفورد جد وارد هارلي قد طور المنطقة في عام 1715، والتي قام أفراد أسرته بإطلاق اسمه عليه، وكان أول طبيب يفتح عيادة في المنطقة، هو الدكتور جون هارمن اختصاصي العيون، ويعتبر هارلي ستريت مكانًا لعدد من المشاهير مثل السير جوزيف ليستر، وهو أول طبيب روج لفكرة الجراحة المعقمة عندما كان يعمل في مستشفى رويال جلاسكو. يقدر العائد من العلاج بأشهر شوارع لندن "هارلي ستريت" بنحو مليار جنيه استرليني، وهو معقل الطب الحديث والمكان الوحيد في العالم الذي يضم أكثر من 3 آلاف عيادات استشاريين متخصصين في الرعاية الطبية في منطقة واحدة، وتعتبر لندن من أشهر المناطق في العالم من حيث المختبرات الطبية الحديثة والاكتشافات الطبية الجديدة، كما أنه أفضل مكان لعمليات التجميل، وإذا كنت قد شاهدت الفيلم التاريخي الحائز على جائزة الأوسكار " The King’s Speech. "خطاب الملك" للمخرج توم هوبر، وكيف عولج دوق يورك قبل أن يصبح الملك جورج السادس من تقطع الكلام "التهتهة" بعيادة ليوني لوج في 146 هارلي ستريت، وأصبح د. لوج من مؤسسي كلية معالجة الكلام، والتي أصبحت الكلية الملكية للخطابة واللغة المعالجة.
...
اختار بطل آخر من حكاوي الهجرة هارلي ستريت لعيادته الأولى بعد أن أثبت أن المصري يستطيع بجهده وإصراره على النجاح في بلد المستعمر، د. فايز بطرس خرج من الديار المصرية في عصر جمال عبد الناصر، رغم حبه وعشقه لبلده، عيادته في 134 هارلي ستريت مفتوحة لكل مصري يطلب المشورة والعلاج، جمعته بالشيخ الشعراوي قصة حب ومودة وصداقة، وكذلك بالنجمة سعاد حسني الذي تحولت له كمريضة من خلال المكتب الطبي للسفارة المصرية بعد أن أجرت عملية بالعمود الفقري في فرنسا عام 1992، وكانت تعاني من حالة انتكاسية ما سبب لها ألمًا حادا ومستمرا مع عجز كبير، وشلل الوجه، وصادق السعدني وعشق خفة دم الكاتب الكبير الذي كان يعاني من ارتفاع ضغط الدم ونصحه بالراحة، والالتزام بالدواء والابتعاد عن الملح وعدم الدخول في مشاحنات من أي نوع، وضبط النفس، وعدم الغضب، وألا يثور- لأي سبب من الأسباب - كما جاء في كتاب السعدني "مسافر بلا متاع". وهو شيء مستحيل على السعدني الذي لا يرضى بالظلم وأخبار النصابين في الجرائد السارقين لمئات الملايين من البنوك أو من يلهف من الناس مباشرة، مثل زعماء شركات توظيف الأموال، ثم يفرون هاربين للخارج بينما الشعب صاحب المال يعاني ويتعذب.
ولد بطرس جنوب القاهرة بينما كانت مصر تحت الحماية البريطانية، درس بكلية الطب وتخرج ليعمل كطبيب بأحد المستشفيات، وشارك مع أبناء وطنه ابتهاجهم بالثورة عام 1952. لكن سعادته لم تدم طويلًا، ففى الوقت الذي كان يستعد فيه للسفر لاستكمال دراسته بانجلترا، باءت محاولاته العديدة للحصول على تأشيرة خروج للدراسة في بريطانيا بالفشل. وذات يوم، وهو في طريقه إلى العمل، صادف صبيًا مصابًا بجروح بالغة في الطريق وأخذه للمستشفى للعلاج، على الرغم من احتجاجات سلطات المستشفى،أصر بطرس على علاجه من نفقاته الخاصة، قدم الأخ الأكبر للصبي للاطمئنان على أخيه وشكر الطبيب، تعارفا وقدم الشاب خدماته للطبيب، وعرض بطرس مشكلته، فالشاب واحد من ضباط الشرطة المسؤول عن تأشيرات الخروج، وبعد ذلك بوقت قصير، لدهشة بطرس، سلمه تأشيرة الخروج.
عند وصوله إلى إنجلترا عام 1960، رسخ بطرس نفسه بسرعة في الممارسة العامة. التقى زوجته الأمريكية، ماري، في لندن، وقرر لأول وهلة أنها ستكون المرأة التي سيتزوجها، وعبر عن حبه لها بطهو مأكولات المطبخ المصري، وانبهرت الزوجة بمواهبه الإبداعية. عاش بطرس كل دقيقة وكأنها الأخيرة وكأن الحياة لن تنتهي أبدًا. أنجب من زوجته ابنهما أندرو وابنته جين.
كان فايز بطرس يهتم بجميع مرضاه بعناية ودفء وروح دعابة. لسنوات عديدة، عمل كطبيب عام بالتأمين الصحي البريطاني NHS GP في ستوك نيوينجتون، شمال شرق لندن، وبحكم عمله كان مرضاه من جميع الطوائف والملل والأديان، وكطبيب محترف لم يكن يفرق بين مريض وآخر، حيث خدم مجموعة متنوعة للغاية من السكان بما في ذلك عدة مئات من اليهود الأرثوذكس، لدرجة أن بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، اتصل به العديد من مرضاه اليهود لتأكيد ولائهم له كطبيب لهم. في وقت لاحق، كطبيب عام في عيادة خاصة في شارع هارلي، أحصى من بين مرضاه الأمراء السعوديين والسياسيين المصريين والزعماء الدينيين المسلمين والأقباط، منهم الشيخ الشعراوي، كان من مساوئه شكوى المرضى من الانتظار الطويل، فهو غالبا ما كان يقضي ساعة أو أكثر مع المريض الذي تم تحديد موعد له مدة لا تزيد على 15 دقيقة.
عام بعد عام ترى الكثير بل المئات يأتون للعلاج لشهرة المكان، 40% فوق سن الـ45 يأتون من كل مكان في العالم، مع تزايد عدد المرضى القادمين من الشرق الأوسط للشارع الشهير خاصة الإمارات المتحدة وقطر والكويت.
.. مزيد من الاطباء المصريين غزوا هارلي ستريت، في مجالات طب القلوب جراحات الأسنان وأطفال الانابيب، والعقم وتخصصات أخرى كثيرة سألقي الضوء على حكايتهم في غربتهم.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية