تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الأمير.. وبناء الإنسان
في رحلة الحياة تُفتح أبواب وتغُلق أخرى، بعض الأشخاص يختفون من حياتك لأنهم صفحة وليسوا كتابًا، ويظهر أشخاص لم تكن تتوقع ظهورهم، مرسلون من الله يحملون لك الخير، فعندما تغلق كل الأبواب لا يغلق الله بابه.
فتح الله لي بابًا جديدًا، طرقت الباب ليفتح لي يومًا شخصًا، سافر من المملكة السعودية إلى أرض الكنانة باحثًا عني، فقد سبقت سمعتي في الإبداع الصحفي اسمي.
وفي روزاليوسف أخبروه بأنني غادرتها مغتربًا للمملكة المتحدة، فأتى إليها الأديب السعودي علوي الصافي باحثًا.
وفي لندن، كان القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في هذه الفترة مركز المعلومات لأي إعلامي عربي زائر للعاصمة البريطانية.
التقى علوي بالصديق ابن مدينة حلحول شمال الخليل بفلسطين، وصاحب العلامة المميزة في الإذاعة البريطانية "وهذا ماجد سرحان يحييكم من لندن"، وسأل عني، فصاحبه صاحب الصوت البلاتيني المميز مشكورًا لمكتبي، وتحادثنا ليطلعني على خطة المؤسسة التي يعمل بها "مؤسسة الملك فيصل الخيرية"، التي أسسها أبناء الملك فيصل، ورأس مجلس أمنائها الأمير محمد، وأدارها الأمير خالد الفيصل، لتكون واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية في العالم.
وتقدم جائزة الملك فيصل العالمية للمتفانين من الرجال والنساء الذين أوقفوا حياتهم للعلم، وحققوا إنجازات فريدة كان لها مردودها الإيجابي في مجالات إبداعهم، خمس جوائز تمنح سنويًا مع شهادة بالخط الديواني، وميدالية ذهبية يتم سبكها خصيصًا لكل فائز، وجائزة نقدية قيمتها تتخطى 200 ألف دولار، وكان أول الفائزين بها العلامة أبو الأعلى المودودي، وحصل عليها رونالد ليفي، أول يهودي ينال الجائزة عام 2009.
كان الأمير والشاعر والفنان التشكيلي، خالد الفيصل، الثالث من أبناء الملك فيصل بن عبد العزيز، وكان وقتها أميرًا لمنطقة عسير، بعد أن أسس "مؤسسة الملك فيصل الخيرية" مع إخوته، للحفاظ على إرث الملك فيصل، والمضي في تحقيق رؤاه بتدعيم العلم والتعليم والبحوث.
كان المشروع الثقافي الأول للمؤسسة إصدار مجلة أدبية ثقافية، قبل أن تخوض في تقديم جائزة الملك فيصل العالمية، وغيرها من مشاريع المؤسسة.
واختار الأمير الأديب علوي طه الصافي، الذي بدأ حياته بعد حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة بيروت في محطات صحفية، وسكرتيرًا إعلاميًا لمحمد عبده يماني وزير الإعلام، ومسهمًا في الصحافة الثقافية تارة كاتبًا، وتارة مؤلفًا للقصة القصيرة وأدب الرحلات والأطفال، كأول رئيس تحرير لمجلة الفيصل.
قصدني علوي الصافي الذي بحث عني كثيرًا في القاهرة ولندن، لتولي مهمة المدير الفني للمجلة الجديدة، اعتذرت له في البداية؛ لاستحالة ترك مشروعي والسفر للمملكة لتولي هذه المهمة.
وبعد محاولات إقناعي، وشد وجذب ومد وجذر حول شروط الاتفاق، والرجل مُصِرّ.. اتفقنا أن أقضي عشرة أيام كل شهر في الرياض لتصميم صفحات المجلة، على أن أعود بها للندن لتنفيذ الأفلام وإعدادها للطباعة.
سافرت للرياض، وكانت زيارتي الأولى للمملكة، استقبلني بالمطار مندوب عن المؤسسة مرحبًا، وأقلني في سيارة مرافقًا إلى مقر سكني لفيلا في منطقة "العليا" بقلب العاصمة الرياض.
كانت منطقة نائية، أراضي خاوية باستثناء عدد قليل من المباني المتناثرة على مساحة أرض متسعة، وسوبر ماركت هو المتنفس الوحيد لسكان المنطقة.
علمت من مرافقي أن العليا حي من أقدم أحياء مدينة حائل التراثية، يعود تاريخه إلى ما قبل 250 عامًا، ويحوي كنوزًا من التراث العمراني، ومن المخطط له أن يكون من أهم مناطق العاصمة، وأن الأمير خالد يبني فيه فندقًا أسماه "عطاالله" تيمنًا باسم حصانه، فهو يُكِنُّ حبًا وعشقًا للخيل، هذا المخلوق الجميل، وكتب في وصفها من الشعر أجمل وأرق الكلمات (من بنات الريح لي صفراء جفول.. كنها ظبي الفلا في جبالها)، (منوة الخيال عساف الخيول.. زينها في دقها وجلالها).
واليوم أصبح العليا واحدًا من أكبر وأرقى أحياء المدينة وأغلاها، وأهم الأحياء التجارية والسياحية التي تحتضن عشرات الفنادق وناطحات السحاب، منها أبراج المملكة والفيصلية، أعلى ناطحة سحاب في المملكة، ويملكها الأمير خالد الفيصل.
في الفيلا السكنية استقبلني شابان من أهل بلدي، مرحبين، الكاتب والناقد الصحفي جلال العشري، والخطاط من جريدة الجمهورية المصرية محمد غريب، وجلال العشري، ابن مدينة المحلة، وخريج آداب قسم فلسفة، وكان سكرتير تحرير لمجلة "الفكر المعاصر"، ثم مديرًا لتحرير مجلة "المجلة" و"الشعر"، وعمل ناقدًا أدبيًا وفنيًا بمجلة الإذاعة والتليفزيون، واستاذًا محاضرًا بالمعهد العالي للفنون المسرحية، والعالي للنقد الفني، وله دراسات نقدية ومؤلفات في الآداب، وترجمات من الأدب الغربي، وشارك في موسوعات فلسفية.
وتعاقد الصافي مع العشري لإدارة تحرير المجلة، وغريب كخطاط ومساعدًا لي، كان لمحمد غريب تاريخًا في فن الخط العربي، وأبدع بها في الحملات الإعلانية لشركة الإعلانات المصرية التابعة لجريدة الجمهورية، والتي كان يزين صفحاتها الأولى بخطوط مانشيتاتها.
.. في اليوم التالي توجهت لزيارة الأمير، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي ألتقي فيها بأمير، لقب لا أعلم عنه الكثير سوى أنه رتبة ملكية لأعضاء الأسر الحاكمة، وتسمية الفتيات لفارس أحلامهن بالأمير، الذي سيأخذها على حصانه الأبيض وتعيش معه حياة الأحلام السعيدة.
حملت لوحة أحضرتها معي، كنت قد رسمتها للملك فيصل رحمه الله عليه، وتوجهت لزيارة الأمير خالد الفيصل، والتعرف عليه، وتقديم هديتي، تعبيرًا عن احترامي لمسيرة أبيه الملك فيصل، واحد من الرجال الذي يندر وجودهم، ولمواقفه المشرفة مع مصر، رجل طالب شعبه بأن يسلحوا أنفسهم بالعلم، وقال "لو لم أكن ملكًا لكنت معلما".
في مكتب الأمير خالد بمؤسسة الملك فيصل الخيرية بطريق الملك فهد، وهي المؤسسة التي بناها الأبناء بهدف الحفاظ على إرث الملك فيصل، والمضي في تحقيق رؤاه؛ استقبلني بشوش الطلعة، هادئ الطبع، جمّ التواضع، مرهف الحس.
شعرت بأنني أمام "مجموعة إنسان"، أعجبه "البورتريه" الذي رسمته لوالده العظيم، وفاجأني بأنه يهوى الرسم ودرسه على يد فنانين سعوديين، إلى جانب دراسته لأعمال فنانين عظماء وتأثره بهم مثل جون كونستابل، ثيودور روسو، جين ميليه، كميل كورو، وبأعمال عظماء الفن الحديث مثل كلود مونييه، رينوار، وفان جوخ، وعن الوقت الذي يقتطعه رغم مشاغله الجسام ليزاول الهواية.
ورغم أن الأمير يجمع لغتي الريشة والقلم، أدوات ينطق ويخاطب بها، إلا أن الرسم بالنسبة له وأصباغ اللون، مادة تعبير بلغة بصرية قادرة على تنظيم فوضى الأفكار وتوتر المشاعر، ويتعامل مع اللون كوسيلة بوح ورسالة للمتلقين.
عندما تخرج في جامعة أكسفورد عام 1961، تخصص في السياسة والاقتصاد ومنها بدأ يمارس فن رسم الطبيعة والوجوه والأشياء ذات الأصول الفلسفية المشتركة.
رسم 193 لوحة وأقام 14 معرضًا في 10 مدن وعواصم في الرياض وجدة وأمريكا والرباط وبريطانيا، حيث اشترك مع الأمير تشارلز في معرض عام 2001، وفى البرتغال وفرنسا، وهناك عملان للفنان الأمير بورتريهان متميزان بألوانهما الجريئة للملك عبد الله والملك سلمان.
ومع الوقت تأكد لي اهتمام الرجل بالإبداع ونشر ثقافة الفن التشكيلي ودعمه، ورعايته للفنون البصرية.
وبما أن الامير الفنان مأثور ببناء الإنسان ويراهن عليه الكثير، فقد حدثني عن نظريته في "بناء الإنسان وتنمية المكان"، لا بد من بناء الإنسان أولًا من خلال الثقافة والفنون قبل تنمية المكان، لأنك إذا نميت المكان قبل الإنسان، فلن نستفيد منه، الإنسان أولًا والمكان ثانية.
وتواصل لقائي مع الأمير الشاب الشاعر والفنان والسياسي، لأحلق معه في أحلامه وإبداعاته.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية