تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
لا ترد ولا تستبدل.. دراما تسوّق حضارة مصر
سعدت جدًا بمشاهدة حلقات مسلسل لا ترد ولا تستبدل، ليس فقط لأنه عمل درامي متماسك ومؤثر، بل لأنه أعاد التأكيد على الدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه الدراما المصرية، بوصفها أداة وعي، ومرآة مجتمع، ووسيلة قوة ناعمة قادرة على الوصول إلى كل بيت داخل مصر وخارجها.
هذا العمل لم يكن مجرد حكاية تُروى، بل تجربة إنسانية وبصرية حملت رسالة أعمق عن الإنسان والمكان والألم والأمل معًا.
عندما نتحدث عن أثر الدراما، فإننا نتحدث عن الصورة، والصورة في زمننا هذا أصبحت أقوى من أي خطاب مباشر. الدراما تدخل كل بيت، بلا استئذان، وتشكل الوعي الجمعي بهدوء. والدراما المصرية، بما تمتلكه من تاريخ وخبرة وقاعدة جماهيرية، لديها سوق واسع وأرض خصبة داخل كل بيت عربي. رأينا كيف نجحت دول مثل تركيا في استغلال الدراما كأداة للتسويق السياحي، وكيف تحولت المسلسلات إلى دعوات مفتوحة لزيارة المدن والآثار والطبيعة، حتى أصبحت بعض المواقع السياحية معروفة عالميًا بفضل مشهد أو حكاية. ومصر، التي تمتلك ما لا مثيل له، أولى بأن تستثمر هذه القوة.
نحن نتحدث عن دولة تملك حضارة صنعت التاريخ وأماكن لا يمكن تكرارها. الأهرامات التي تحدت الزمن، والمعابد التي لا تزال تحكي قصص الملوك والآلهة، والمدن الساحلية الممتدة على البحرين الأحمر والمتوسط، والتنوع الجغرافي والإنساني الذي يمنح كل محافظة روحًا مختلفة.
مصر لا تمتلك مجرد آثار، بل تمتلك ذاكرة العالم، وقد قُدرت آثارها بما يقارب ثلث آثار العالم، وهو رقم يعكس حجم المسؤولية قبل أن يعكس حجم الفخر. وبعد افتتاح المتحف المصري الكبير، وما صاحبه من حفل عالمي لفت أنظار العالم، أصبحت مصر مرة أخرى في بؤرة الاهتمام الدولي. الإقبال العالمي على زيارة المتحف والآثار لم يكن مفاجئًا، لكنه أكد أن العالم متعطش لرؤية هذه الحضارة حين تُقدَّم بصورة تليق بها.
من هنا تأتي أهمية الربط بين الدراما والصورة السياحية، وهو ما نجح فيه مسلسل لا ترد ولا تستبدل بذكاء ووعي واضح، إذ لم يكن مجرد عمل اجتماعي، بل تحول إلى سفير غير مباشر للآثار المصرية ولمحافظة المنيا على وجه الخصوص، تلك المحافظة التي كثيرًا ما ظُلمت إعلاميًا رغم كونها واحدة من أغنى محافظات مصر تاريخيًا وحضاريًا.
وخلال حلقاته، لم يحبس العمل نفسه داخل نطاق جغرافي واحد، بل غاص في محافظات أخرى، متنقلًا بين المنيا ودمياط وأماكن أثرية متعددة في القاهرة، ليقدم صورة بانورامية لمصر بعيدًا عن النمطية. الصورة هنا لم تقتصر على الآثار وحدها، بل امتدت لتشمل الملامح الإنسانية والبيئية، من البيوت والشوارع وحلاوة المشبك الدمياطي إلى تفاصيل الحياة اليومية ودفء العلاقات بين الناس، وهو ما منح المكان صدقًا خاصًا وجعله بطلًا حقيقيًا لا مجرد خلفية للأحداث.
ومن خلال هذا التنوع، اكتشف المشاهد أماكن جديدة وكنوزًا غير مطروقة على نطاق واسع، من آثار فرعونية إلى يونانية ورومانية وقبطية وإسلامية، في لوحة متكاملة تؤكد أن مصر ليست عصرًا واحدًا ولا حكاية واحدة، بل طبقات متراكمة من الحضارة والجغرافيا والإنسان، وأنها مشهد طبيعي وحضاري جاهز للكتابة والإخراج، وأن الدراما حين تحسن توظيف المكان تتحول إلى أداة وعي وترويج سياحي بالغة التأثير، دون شعارات مباشرة أو افتعال.
ومن التفاصيل اللافتة التي حسبت للعمل أيضًا، أنه لم يكتفِ بتقديم المكان كصورة جمالية، بل حمل معلومة ومعنى، حين توقف عند ضفاف النيل في لحظة دلالية نادرة، موضحًا نقطة التقاء النهر بالبحر المتوسط عند مدينتي رشيد ودمياط، حيث يسلّم النيل رحلته الطويلة إلى البحر بعد أن صنع على ضفتيه حضارة كاملة.
هذه الإشارة البسيطة أعادت ربط الجغرافيا بالتاريخ، وقدمت للمشاهد معلومة ربما يجهلها كثيرون، مؤكدة أن الدراما قادرة على الجمع بين المتعة والمعرفة، وبين الحكاية والصورة، دون خطاب مباشر أو افتعال، لتتحول المشاهد إلى درس حي في الجغرافيا والهوية، وإلى دعوة مفتوحة لاكتشاف مصر من منابع النيل حتى مصباته.
لكن قوة مسلسل لا ترد ولا تستبدل لم تتوقف عند الصورة والمكان، بل امتدت إلى عمق إنساني شديد الحساسية، حين اقترب بجرأة وصدق من آلام مرضى الفشل الكلوي. هذه الفئة التي تعيش وجعًا يوميًا صامتًا، لا يراه كثيرون ولا يُلتفت إليه دراميًا، وجدَت أخيرًا من يتحدث عنها بصدق. المسلسل نقل مرارة الغسيل الكلوي، ثقل الجلسات، رهبة الأجهزة، والخوف الدائم الذي يرافق المرضى، دون استعراض أو مبالغة.
كلمات سفيرة المستقبل الصغيرة أميرة حربي عبّرت بصدق عن هذا الأثر، حين قالت إنها شعرت وكأنها تشاهد حياتها على الشاشة، من لحظة تركيب المهوكر إلى الجلوس جوار الماكينة ورؤية الدم وهو يُصفّى. إحساسها بالوجع، وبأن أحدًا أخيرًا قرر أن يرى هذا الألم ويتحدث عنه، يلخص قيمة ما قدمه العمل. المسلسل لم يدّعِ أنه قادر على نقل الإحساس كاملًا، لكنه نجح في إيصال جزء حقيقي منه، وهذا في حد ذاته إنجاز.
الأهم أن الدراما هنا لم تكتفِ بعرض الألم، بل كشفت أيضًا عن التجارة بهذه الآلام، وعن استغلال المرض والمرضى، لتفتح بابًا للنقاش والوعي والمساءلة. وهذا هو الدور الأسمى للفن، أن يُجمّل الصورة حين يجب، وأن يعرّي القبح حين يكون الصمت جريمة.
ويحسب لمسلسل لا ترد ولا تستبدل هذا الحضور القوي لأبطاله وصنّاعه، حيث جاءت اختيارات التمثيل واعية ومنحازة للصدق لا للنجومية فقط. دينا الشربيني قدمت واحدة من أكثر تجاربها نضجًا وإنسانية، أداء هادئ ومشحون بالمشاعر، استطاعت من خلاله أن تنقل هشاشة الألم وقوة الصمود دون افتعال، فبدت الشخصية حقيقية وقريبة من القلب.
أما أحمد صلاح السعدني فنجح في تقديم أداء متوازن ومتماسك، يجمع بين الانكسار الداخلي والمسؤولية الثقيلة التي تفرضها الأزمات العائلية، ليؤكد مرة أخرى قدرته على الإمساك بالشخصيات المركبة بوعي وعمق.
وشاركهما البطولة نخبة من الممثلين الذين أضافوا ثراءً واضحًا للعمل، من بينهم صدقي صخر بحضوره الهادئ وأدائه المحسوب، وحسن مالك الذي واصل تقديم أدواره الإنسانية بصدق، إلى جانب فدوى عابد ويارا جبران وحنان سليمان، حيث جاءت جميع الأدوار مكملة للنسيج الدرامي دون مبالغة أو استعراض.
هذا التماسك في الأداء يعود أيضًا إلى النص الذي صاغته دينا نجم وسمر عبد الناصر بحس إنساني واعٍ، وإلى رؤية إخراجية دقيقة للمخرجة مريم أبو عوف، التي أحسنت إدارة التفاصيل والمشاعر، وقدمت عملاً متوازنًا يجمع بين الحس السينمائي والدراما التلفزيونية، وهو ما انعكس في النجاح الكبير الذي حققه المسلسل ، واستقباله الواسع من الجمهور والنقاد على حد سواء.
أخيرًا
لا ترد ولا تستبدل نموذج لما نحتاجه في الدراما المصرية:
عمل يجمع بين الجمال والوجع، بين الترويج للمكان والصدق مع الإنسان، بين الصورة السياحية الراقية والرسالة الاجتماعية العميقة. هو دليل على أن الدراما قادرة على أن تكون سفيرًا لمصر، وضميرًا لمجتمعها، وصوتًا لمن لا صوت لهم. وحين ندرك هذه القوة ونحسن استثمارها، سنجد أن شاشاتنا قادرة على أن تحكي للعالم من نحن، ولماذا كانت وستظل مصر حضارة صنعت التاريخ وأماكن لا تُنسى.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية