تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الضيافة المصرية تصوغ مستقبل السياحة المستدامة
بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. الضيافة المصرية تصوغ مستقبل السياحة المستدامة
في أعقاب افتتاح المتحف المصري الكبير، تشهد مصر طفرةً سياحيةً غير مسبوقة، تتجلى في الأعداد القياسية لزوار المتحف ومنطقة الأهرامات، وفي الإشغال الكامل للفنادق، ونفاد تذاكر قطارات النوم المتجهة إلى الأقصر وأسوان، فضلًا عن الزيادة الملحوظة في حركة الطيران. هذا الزخم السياحي يؤكد مكانة مصر كوجهة عالمية استثنائية، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلًا مهمًا: هل تمتلك مصر المقومات البشرية الكفيلة بالحفاظ على هذا الحراك وتحويله إلى نمو سياحي مستدام؟
السائح لا يبحث فقط عن الآثار أو التاريخ، بل عن التجربة الإنسانية التي يعيشها في المكان. فابتسامة موظف الاستقبال، وإرشاد سائق التاكسي، وتعامل الشرطي، ونظافة المكان، هي عناصر تشكل في مجموعها الانطباع الحقيقي الذي يحمله الزائر عن مصر. كما أن طريقة تعامل رجل الشارع العادي مع السائح تلعب دورًا لا يقل أهمية، فالكلمة الطيبة، والابتسامة الودية، والمساعدة البسيطة في الاتجاه أو المعلومة، كلها تفاصيل صغيرة تصنع أثرًا كبيرًا في نفس الزائر.
وقد شهدت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي العديد من الشهادات الإيجابية التي قدمها ضيوف مصر من مختلف الجنسيات، مشيدين بأخلاق المصريين وكرمهم العفوي واستعدادهم الدائم للمساعدة دون تردد. هذه النماذج الواقعية التي يرويها السائحون أنفسهم تعكس بصدق الصورة المشرقة للمجتمع المصري، وتؤكد أن روح الضيافة ليست سلوكًا مكتسبًا، بل جزء أصيل من طبيعة هذا الشعب.
عندما يشعر السائح أن المصري يقابله بالترحاب دون انتظار مقابل، وأنه محاط بمودة طبيعية تنبع من روح الشعب نفسه، تتجسد أمامه صورة مصر الحقيقية: بلد الضيافة والإنسانية. إن الضيافة هنا ليست مجرد خدمة، بل هي تعبير صادق عن هوية وطنية يجب أن تُبنى على الوعي والتعليم والتدريب.
الارتقاء بالسياحة لا يتحقق بالمشروعات العمرانية وحدها، بل يبدأ من بناء ثقافة التعامل مع السائح داخل المؤسسات التعليمية. فدمج مفاهيم الضيافة في المناهج الدراسية خطوة ضرورية لتشكيل وعي الأجيال الجديدة بأن السائح ليس غريبًا، بل شريك في التنمية. إن كل طالب، مهما كان تخصصه، يمثل جزءًا من الصورة التي يراها العالم عن مصر.
تدريس ثقافة التعامل مع السائح يحقق عدة أهداف أساسية. فهو أولًا يبني الوعي الوطني لدى المواطن بأن سلوكه الإيجابي يعكس صورة بلاده، ويغرس قيم التسامح والاحترام والتفاهم الثقافي منذ المراحل الدراسية المبكرة. ثانيًا، يؤهل الكوادر غير السياحية للتعامل المهذب مع الزائر، فالسائح لا يتعامل فقط مع موظفي الفنادق، بل مع المجتمع بأسره. ثالثًا، يرفع جودة التجربة السياحية، لأن التعامل الحضاري هو أداة تسويقية أقوى من أي إعلان، تضمن ولاء السائح وتشجعه على العودة ونقل صورة إيجابية للعالم.
تتحمل الدولة مسؤولية محورية في تحويل ثقافة الضيافة إلى مشروع قومي يضم ثلاثة محاور رئيسية: محور تعليمي يهدف إلى دمج مواد ومقررات حول الضيافة والوعي السياحي في كل المراحل التعليمية، ومحور تدريبي يستهدف جميع القطاعات التي تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع الزوار، ومحور تحفيزي يكرم النماذج الإيجابية التي تعكس روح الضيافة المصرية.
الطفرة السياحية الحالية ليست حدثًا عابرًا، بل فرصة تاريخية يجب استثمارها بحكمة. فالإقبال غير المسبوق، الذي تجاوز 18 ألف زائر في يوم واحد للمتحف المصري الكبير و30 ألفًا لمنطقة الأهرامات في يوم الذروة، إلى جانب الامتلاء الكامل للفنادق ونفاد تذاكر قطارات النوم حتى منتصف نوفمبر، كلها مؤشرات على أن مصر دخلت بالفعل مرحلة الازدهار السياحي.
غير أن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب توسعًا فوريًا ومدروسًا في البنية التحتية والخدمات السياحية، من خلال زيادة السعة التشغيلية للمواقع الأثرية والمتاحف، والتوسع في إنشاء الفنادق، وتعزيز النقل السياحي البري والنهري، مع إيلاء اهتمام خاص لتطوير منظومة السكك الحديدية وتسيير عدد أكبر من القطارات، خاصة قطارات النوم ، لتواكب حجم الإقبال على السفر إلى المقاصد الأثرية في الأقصر وأسوان. فذلك كفيل بتوفير تجربة مريحة وآمنة لكل زائر، وترسيخ مكانة مصر كوجهة سياحية عالمية مستدامة.
أخيرا
الضيافة المصرية ليست مجرد تقليد اجتماعي عريق، بل ثروة وطنية يمكن تحويلها إلى مصدر قوة اقتصادية ودبلوماسية ناعمة. فكل مواطن مصري هو سفير لبلده، وكل تفاعل مع زائر هو رسالة تعكس وجه الوطن. وعندما تصبح ثقافة الضيافة جزءًا من المنظومة التعليمية والسلوك العام، تتحول مصر إلى مدرسة عالمية في فن استقبال الآخر، ويصبح السائح زائرًا دائمًا وصديقًا وفيًّا لهذا البلد العريق.
ومن اللافت أن عددًا كبيرًا من دول العالم، رغم أنّها لا تملك عُشر ما تمتلكه مصر من مقوّمات حضارية وسياحية، تحقق مليارات الدولارات سنويًا من عوائد السياحة.
فدول مثل ليونان، وتركيا، والإمارات، وتايلاند تعتمد على موارد محدودة مقارنة بما تمتلكه مصر من *آثار فرعونية خالدة، معابد مصرية قديمة، أديرة وكنائس تاريخية، مساجد أثرية، سواحل خلابة تمتد على البحرين الأحمر والمتوسط، وصحراء تزخر بالسياحة البيئية والمغامرات .
هذه الثروة المتنوعة تجعل من مصر “متحفًا مفتوحًا” للعالم، ومقصدًا سياحيًا متكاملًا يمكن أن يجمع بين عبق التاريخ وسحر الطبيعة ودفء الإنسان المصري، إذا ما استُثمرت برؤية واعية تجعل من السياحة مشروعًا وطنيًا مستدامًا لا موسميًا.
وأنا في زيارتي الأخيرة إلى فرنسا منذ سنوات، علمت من إدارة متحف اللوفر أن دخله السنوي يقارب ما بين 200 إلى 250 مليون يورو تقريبًا. هذا الرقم رغم ضخامته بالنسبة إلى متحف واحد، يبقى ضئيلاً إذا ما قورن بالثروة التي تملكها مصر من مقومات اقتصادية وسياحية وطبيعية خاصة وقد اضيف الي كل هذا المتحف المصري الكبير ما تحتويه جدرانه من اثار تتكلم مصري . ومن ثم، فإن السؤال ليس فقط كيف نستطيع جذب الزائرين، بل كيف نحول هذا الزخم إلى عوائد مستدامة من خلال تأهيل وإشراك الكوادر البشرية، وربط السياحة بالصناعات المحلية، والبُنى التحتية، والخدمات، والضيافة الحقيقية التي تجعل الزائر يُحب العودة والتوصية.
إن الاستثمار الحقيقي في السياحة يبدأ من الإنسان، ومن إيمانه بأن الضيافة ليست واجبًا مهنيًا فحسب، بل شرف وطني يليق بمصر وتاريخها ومكانتها بين شعوب العالم.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية